نشرة سديم البريدية - العدد #3

بواسطة سديم #العدد 3 عرض في المتصفح
عندما أقْبَلَ الصيف، وأَقْبَلَ معه قَيْظ شديد مُرْهِق لا يَصْهَر الأبدان وَحْدَها، ولكنه يَصْهَر معها العقول، ولعله يَصْهَر مع العقول والأبدان بعض الأخلاق أيضًا، فيَدْفَع قومًا من الأمر إلى ما لم يكونوا لِيُدْفَعُوا إليه لو لم يَشْتَدَّ القيظ على أبدانهم وعقولهم وأخلاقهم، فيَمْنَعُهم من الأناة والمهل، ومن التفكير والتروية، ومِنْ ضَبْط النفس وتسليط العقل على الإرادة حين يعملون أو يقولون. ولكني لم أَكْتُـــــــب لأُحْصي آثار القيـــظ الشديد المُرهِق في أبــدان الناس وعقولهـــم وأخلاقهم، وإنما أريد أن أُسَجِّل أن هذا القيظ الشديد المُرهِق لا تستقيم معه الأحاديث عن الشِّعْر القديم عامَّة، وعن شِعْر الجاهليين خَاصَّة. فالأحاديث عن هذا الشعر تحتاج — فيما يَظْهَر — إلى شيء من الراحة والهدوء، والقدرة على التفكير المُطْمَئِنِّ، وهذا الفراغ الفني الذي يُتيح للذوق أن يَسْتَأْنِ ويتمهَّلَ ويسيغ الأشياء في غَيْر جهد ولا مَشَقَّة / والا تــــعرُّضٍ لهذا العناء السريع الذي نَتَعَــــــرَّض له حين يُسَلِّط الجـــو علينا هذا الحرَّ الشديد.

(١)

تيقظّت فَجر اليوم، قد عشتُ دنيا كاملة، رعاك الله ياعمّ، ورعى الله من ربّاك، أكرمتنــي واهديتني، وحملتنــي طفلًا، ودموعي لعبي

ماكان الدرب ممهدًا ولا ميسرًا، تيقظّت بعد نصف ساعة زمن، لم استغرق يومًا ١٥ دقيقة لغفوة، غفوة صيفية .. حَلمتُ فيها أنني:

" قد كنتُ نخلةً عند باب مكتبة عتيقه، رأيت فَتاة، أمرآة مكتملة البهاء، لم تكن قادره على النقص، جمالها معقد للغاية، قالت مَعاذ الله ذلك ما جرى، أظنه قد سألها خضبتِ الكفّ على فراقنا؟ وقد خَضَبت. قال الباب: انتهت كالحلم تمامًا لكنها تركت بصمة في الداخل، لأني مش قادر اتناساها، انتهت بخروجي وهروب من ذلك الحب خوفًا من أن أُقتل، لكن أظنني رايت لحظة مقتلي. رّدت الفتاة، لم اخضب كفّي، في يدي كتاب، اصبغ اظافري باللون الأحمر، اضع احمر شفاه، خلّيك مَحضر خير، يا بَاب كل ذاك...

جوزيف ناصيف : باعتلك هالغنيّة / لحن : الأخوين رحباني

تيقّظت، الامر اشبه بأن استيقظ في غرفة خالية، الجو بارد، عظامي مركبة بطريقة عشوائية، اليد هناك، والاذن تسمع الارض، والعين شاهقة للسماء، والرجل لا تستطيع المشي، كونها قد سَقطتَ من الاعلى، كل مافيّ غير مركّب مثلما كان. 

 ٤:٤٢ ص : هل الصيف سيعود ؟

٤:٤٢ ص : الصيف عدّا 

٤:٤٣ ص : كنت تقول دائمًا من الممكن أن يكون هذا حلمًا ؟

٤:٤٣ ص : استيقظت

٤:٤٤ ص : يعني انتهاء الحلم

قمت أشعل النار، هنا وضعت الهيل، والشاي، والحليب، ولم يأتِ أخي ليشرب معي فنجانًا، 

صوّبت نظري على ذاك الابريق .. دَخلت الحيـــاة، الرف رقم ٣٤ الصف الأول،

أدَب الفِراق، لأ. أدب النهايات. لا،

حسنًا، أمين المكتبة يسأل: مالذي تريدينه يا ابنتي،

يا عَم، اربع كتب، سقطت مني سهوًا، أتراك تجد لي مثلها؟

العنوان الأول، "لم تترك له ساعة زمن، يبحث في حاسوبه ذاك القديم المهترئ، كان قد ذهب بالفعل ليصفعه حتى يعمل،،،"

الأول، قَمَر أحمر، بل قَبلهُ، شبيه الريح، أو تعرف؟ فلنبدأ بالأم، أم القلب. أتراكِ وجدت هذه الكتب هنا؟  لا، هناك أو عند باب حياتي، لا أعلم، لكن أعرف انني منذ فتحت الباب، دخلت كل هذه الأيام غير المفهومة، أرجوك. اغلقه. الريح عصُفتني.

الكتاب الأول، باب البَحر، الصفحة رقم ١٩٨٣، حَرف النُون، أو بداية الحروف كلها

"يعدُّ ما نُظم شعرًا في معاني الفراق والوداع والتوجُّع على فقد المحبِّين - مِن أصدق الشعر عاطفةً، وأشدِّه تأثيرًا، وأعظمه وقعًا في النفوس والقلوب؛ لأنَّها كلمات وأقوال اكتوت بنار البَيْنِ، وهي نابعة من سويداء القلب، وفي الشِّعر العربي على ألسِنَة العرب الفُصَحاء، وأقوال البُلغاء العرب العرباء - روائعُ من هذا النوع، ومنهم شعراء العِشق في وصْف حالهم عند فراقهم لمحبوباتهم؛ كما تجده في مجنون ليلى وغيره، وما زال الأدباء والحكماء يَغترفون من هذا المورد، وينهَلون من فيضِه وَجوده. وكلما كان المفقود والمحبوب متسمًا بصفات الجود والخير والجمال والنفع والإيثار، كان المصاب بفقده أعظم، والتوجع بوداعه أشد؛ كالعلماء الربانيين، والمجاهدين المرابطين، والعباد الصالِحين؛ ولذا كان فقْد الصحابة رضوان الله عليهم لسيد الخَلق وأكرمهم وأعظمهم جودًا ونفعًا وعِلمًا وإيثارًا أعظم،وعُدَّ فَقدُه صلى الله عليه وسلم من أعظم المَصائب، وعلامة على قرب الساعة وشروطها. ... وقد سار الآلوسي رحمه الله على هذا المسار، ونسَج على مثل هذا المنوال، فشرح أبياتًا رائعة[1] في هذا المعنى، وبيَّن ما فيها من اللغة والأدب والمغزى، قال رحمه الله في شرح بيت الناظم (أحمد بك بن عبدالحميد الشاويِّ الحميريِّ البغداديِّ) الثالث من القصيدة المسماة بالشاوية:

وكيفَ وقد روَّعني بفِراق مَن ♦♦♦ عليَّ فراقُه أَمَرُّ مِن الصَّبِرْ!

(٢)

ثم سَقَط، أو أخذّه منّي الموت، ثم اخذت كتابًا أحبه، عتيق، أظنه شعر. قَصصت ظفائري، وضعتها بداخله منذ ست سنوات، أو منذ عشر اعوام،

اسمه "أمَــــل حَياتي" بصوت محمد عبده، كانت محضّ اغنيات، وقصائد وكتب، وليالِ ملئها صدق، لم يعد يسعها الخَوف، تركت الخَوف و قصت ظفائره. أمَا موقع الطبعة الأولى، مدينة الطائف، مكتبة المعرفة، الغلاف مُزخرف، يشبه الحيَاة، غلافه الأخير أبيض. راية بيضاء، استسلام و نهاية نظيفة، اكذّب في نفسي الشوق وابتسم وانا المحروق، وانا راجع اشوفك ... صوت الأرض، قد شغّله عم محمود أمين المكتبة، اقتطعته اصوات قطط تتعارك، أو عواء ذئاب. لا أعلم، خَرجت مُسرعة، وجدت قطتين، عرفتهما في نفس الشارع، كانوا سويًا، اليوم قد اشتبكت نفوسهم، أظن ان أحدهم مرّ ورمى لهن قطعة لحم، كنت اركض اريد اخبارهم أنها فاسدة، لقد فات الوقت، أكلتها الأولى، ثم ماتت، أكلتها التي لونها يكتسحه البياض، اسودّت عيناها فجأة، بدا قلبها يسودّ. ثم ماتت.

لن أرثيهن، لَقد قلت مرارًا، لاتأكلون سوى من عم محمود. 

(٣)

بحثت عن الكتاب الثاني، الصـــــيف، باب البساط الأحمدي، سجادة كبييييرة،

و قهوة سوداء. لكن، امطرت!

يركض العم : سَديمَنا زارنا، في منامنا، هطل المطر على جراحي يا جَوى،

: مالذي اصبح يستهلّه المطر؟ أكنتِ طفلةً تفرح به وتبتهج؟

خرجت مسرعة، بكيت أكثر من المطر، بكيت نفسي، وبكيت أخي، وبكيت القطط، بكيتهن كثيرًا، لا لأنهن سَاقن الموت لأنفسهن، بل لأنني متّ فيهن، الف مرة، وأردت حمايتهن عشرين مرة، وحذّرتهما من ذاك الرجل، لم يُطعنني، تركتهن. أكَلَ منهن، لم أجدهن الآن، أظن أن العم دفنهن أو .... مرّ أحدهم، إسمهُ .. لم أعد أتذكر، أظنه أحمد أو سعد؟ أو محمد؟ نَسيت ياعم، يبحث عن بيت والد فتاة كانت تقطن هنا، يريد خطفها من أباها، لأنه يحبها. لكنها لا تحبه، ووالدها لا يحبه، في هذا المطر؟ 

هَرعت لكتاب الأمل، أخاف الليل والمطر، كانت تحبه.

وحاصل معنى البيت: وكيف لا يدوم حربي مع الأيام، والحال أنها قد أفزعتْني بفراق أعز الأحبة على الفؤاد؟ فإن فراقه أشد مرارة من الصبِر الشديد المرارة، وأعظم بشاعة من العلقم، وأضر من الإسارة، وإنما أظهر الناظم ما أظهر من التضجُّر لهذا الفراق، وجعله أمرَّ مِن الصبر في المذاق؛ لحسنِ ظنِّه بمَمدوحه،

لم أجد محتواه، قلت: سأقرأ احمد رامي، سألت عم محمود، لم يرد، ياعم.. أسمعك اضحى ثقيلًا؟

ياعم، اليوم سأصبح ما اردت، ألن ترد علي؟ .. ذَهبت للمرتــع، للسجادة، لمكان الشاي، للحاسوب، صفعته خمس مرات، لم يعمل، ياعم! إعمـــــل!

كنت قد وعدتني أنك ســتزفني، لمَ اشعر ان قلبي ينزف الآن، هل ذهبت لتعطي قططك طعامًا؟كنت قبل قليل تقول أن المطر اصابك بالحزن، عم محمود أرجوك، لا تذهب، لم انتهِ، لمن اعطي هذه المكتبة، هل لأحمد؟ أم للقطط، أم الجوى كله، أم لسديم؟ ... طيب، عمي، لقد اكملت الماجستير، اصبحت أعرف الخط العربي، واعرف الفنون التطبيقية، ياعمّ سأصبح طبيبة بعد عامين ونصف، هل اعالجك من الحزن؟

لم يُجب. ذَهب حزني كله .. حتى الوداع جوىّ .. دائمًا بأتمنى لك جوىّ يليق فيك

تيقّظت، ايقظت نفسي، كانت غَفوة نصف ساعة، التاسع من اغسطس، السادسة والنصف صباح صيفٍ ما، والأم في مكة، والأب في الرِياض، والأخ سافر صباح اليوم، تخلّفت عن موعد اصدقائي، أظنني ماعدت صديق نفسي اليوم، ولست أختًا ولست بنتًا ولست حبيبةً، أنا ابنة عمّ محمود الروحية، الذي ذَهب في عام الحزن، ليته بَقي، أحب مكتبته، أحب حنانه، خُذ مني كل الحنان وادفى ياللي محروم من الحنان، وأعِد لي عم محمود. 

بتاريخ: محرّم هذا الحزن، ١٤٤٤ هــجريــة - عام الجَوى.

* كل الأسمـــاء في القِصة تختلف عن موقعها، إلا عم محمود، هو حزني الحقيقي، اكتئاب عمره ٧ سنوات، مات منذ يومين. تثبّت الطبيب، أنني اعاني من شقيقة، أو مشكلة أخرى. لكن ليس ازرق. راح مني الذي حمدته وشكرته، كان حزنًا محمودًا، كان عمّي وأبي، هذّبني وأبني واراني الدنيا الحق، أحبه لأنه أعطاني الحياة على طبق من موتٍ رخيم، لكني اخترت أن اعيش، رغم الجوى

رحمَ الله عمّ محمود، رحم الله أخي، رحم الله العباد، رحمني الله ورحمنا جميعًــا

تمّت في محرم، ١٤٤٤ هـ 

النشر في: ١٨ ربيع الأول من نفس العام  

مشاركة
نشرة سديم البريدية

نشرة سديم البريدية

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة سديم البريدية