نشرة بيت صيف البريدية - العدد #1 |
بواسطة سديم • #العدد 1 • عرض في المتصفح |
لا بأس، لا أريد أن أكون سعيدة ( نقد خطاب السعادة ) و نور شمس في "أحلام الأمومة وأشباح الرفض"
|
|
نشرة الأربعــاء، من بيت صيف، يوم طيّب! |
بدا لي دائمًا أن «انعدام السعادة» ذنب أتحمله وحدي، وأنا المسؤولة عنه حصرًا، عندما ألفيتُ نفسي أتبنى خيارات وأنماط حياة لا تكون في معظم الأحيان مستساغة أو «طبيعية» بالنسبة للمجتمع الذي نشأت فيه. لقد كان سؤال الألم واليأس والحزن بالنسبة لي مثل دوامة، ألقيت نفسي فيها بإرادتي، وعليّ لذلك أن أتحمل إخفاقي هذا وعواقبه. |
حتى أنني تمثيل موجز لمقولة الكاتب المصري وجيه غالي في يومياته: «أفهم إحباطاته السابقة ويأسه (...) وأفهم أيضًا عدم إدراكه لسعادته، مثلي، متخيلًا أنها من المستحيل أن تحدث له (إنني لا أشكو)». |
كيف يوجهنا الوعد بالسعادة؟ |
يكتب شون غراتان حول أن الوصية الاجتماعية بأن تكون سعيدًا تحيط بنا على الدوام، لكن هل يمكن أن نجادل حول الخير في هذه السعادة التي يريدونها لنا؟ هذه السعادة المشروطة ثقافيًا، والتي غالبًا ما تُطرح في سرديات: الأسرة السعيدة، العامل السعيد، المواطن السعيد. إن سارة أحمد تسعى هنا لمقاومة الابتسامة أو الإيماءة الإجبارية. |
تقول ويمز إن وعد السعادة هذا يصبح جزءًا من الخطابات الواسعة، بما في ذلك الفلسفة الأخلاقية والسياسية والتحليل النفسي والنظرية النسوية والكويرية ودراسات المنفى، وعلم النفس الإيجابي الناجح تجاريًا. وبواسطة هذه المجالات تفحص سارة كيف تُعرض التعاسة والبؤس والمعاناة على أجساد وهويات معينة. فالنسوية ليست سعيدة، والمهاجر شخص كئيب، وبهذا يتعرض الكثير من الأشخاص للإبعاد عن نصوص اجتماعية تعنى بالسعادة والأمل والنجاح، فيضطرون إلى تحويل المشاعر السيئة لمشاعر جيدة فقط من أجل الحفاظ على وعد السعادة المزعوم. وهنا إما أن نضطر لحجب معاناتنا، أو تفسيرها بطريقة تتلاءم مع وعد السعادة الذي تريده السلطة، أي سلطة كانت. |
يمكن أن نكتشف بسهولة بحسب ويمز كيف أن هذه السعادة تنطوي على الحكم علينا، وكيف أننا مضطرون لتحجيم السعادة الفردية من أجل الصالح العام لمجتمعنا الأكبر. وبهذا تصبح مؤسساتنا بداية من الزواج والأسرة معملًا لإعادة إنتاج السعادة الطبيعية، وفي هذه الحالة ينبغي وفقًا لسارة أحمد إعادة «الاضطرابات» إلى طاولة الأسرة كعمل ثوري يخلخل هذه الفضاء. |
يرمي خطاب وعد السعادة هذا بحسب غراتان إلى شكل من أشكال التأديب، فـ«لماذا عساك ترفض أن تكون سعيدًا؟»، ويضع الحدود بين الشخص المشاغب والشخص الذي يحسن التصرف. السعادة إذًا مرتبطة بتضييق الآفاق، كما أن هنالك صلة وثيقة بين الحالة الطبيعية التي تحددها المنظومة التي تعيش فيها والسعادة. |
يظهر لنا بذلك سؤال في غاية الأهمية: ما هي الإمكانيات والاحتمالات التي يمكن أن تصنع عالمنا إذا لم نتقيد بخطاب وعد السعادة هذا؟ بالنسبة لسارة أحمد «النضال ضد السعادة كضرورة هو أيضًا صراع من أجل السعادة كاحتمال». إن ظهور إمكانية التعاسة والسعادة والمجموعة الواسعة من التأثيرات المحتملة الأخرى هو التحدي السياسي والأخلاقي الرئيسي لوعد السعادة. |
ثورة إعادة السلبية لطاولة الحوار |
لقد تأثرتُ بصورة خاصة بمقالة إسلام الخطيب حول ما بدا بالنسبة لي تطبيقًا لدعوة سارة أحمد، المتمثلة في اعتبار الألم والحزن والحداد جزءًا ضروريًا من الخطاب العام، وإعادته لطاولة الأسرة. |
تكتب الخطيب: «يُنظر إلى الحداد والرثاء عمومًا كمشاعر سلبية، أو على الأقل مشاعر لن نختارها إن كان بوسعنا الاختيار. وفي أحيان كثيرة، في سياق مناقشة التحديات التي تواجه العالم، يسارع الناس إلى صد الأفكار السلبية والتركيز على تلك الإيجابية. وبغض النظر عن أهمية إيجاد ثغرات الأمل، فإن التركيز على هذا الفعل بشكل حصري هو في حد ذاته جزء من الإنكار الجماعي، في وقت نحتاج فيه إلى البحث بشكل عاجل عن طرق تتيح للمجتمع تحمّل المشاعر المؤلمة المحيطة به والاعتراف بها». |
وانطلاقًا من هذه الفكرة، تحاول إسلام ربط النسوية بالرثاء وممارسة الحداد كفعل سياسي، وتقول إنها وجدت ملاذًا وملجأ في كتابات المحللة النفسية النسوية ميلاني كلاين، في سياق كتابتها عن الكآبة والرأسمالية، وخاصة وصفها الحزن كحالة اجتماعية وجماعية، بمعنى أن الكآبة على علاقة تأثير وتأثر متبادلة مع هياكل القمع المجتمعية المختلفة. |
وبدورها تكتب وديعة فرزلي عن حالات التعب والسقوط والوصول لحافة اليأس، التي تدفع الشخص إلى السؤال عن السعادة، عن فقدانها فلا يجد نفسه سوى أمام كم هائل من الأطروحات التي تحاول تحفيزه أو لومه على التقصير في حق نفسه، فتقول عن كتاب سارة أحمد: «هذا الكتاب لا يعلمنا التقبل والتكيف والامتنان والتسليم بالوضع الراهن، ما يعني أنه لا ينتمي إلى سوق "صناعة السعادة" الرائج. على العكس تمامًا، يعلمنا هذا الكتاب اكتشاف أسباب انعدام الإحساس بالسعادة». |
أخيرًا، إنني أحاول جاهدة التوقف مليًا أمام المواقف التي تحمل قدرًا عاليًا من الإملاءات المرتبطة بالسعادة، وعجزي عن تحقيقها، أحاول أن أقاوم ذلك بتطبيع حالة الحزن الذي أمر به، لأنني لا أستطيع على الإطلاق غض النظر عن كل أسباب التعاسة الفعلية في الواقع الذي أعيش فيه. إنني فعلًا وبحسب وعد السعادة خاصتكم لستُ سعيدة، ولا بأس في ذلك. |
«نور شمس»: أحلام الأمومة وأشباح الرفض |
فنون وثقافة /فنون آية طنطاوي نشر في2021/10/29 |
تاريخ طويل يربط بين الأم شمس وابنها، تاريخ لا نراه لكنه مختزل في نظراتهما، رعايتها الدائمة لها، تطعمه في الصباح والمساء، وتوصله إلى عمله، تنفق عليه الأموال، كأنها لا تزال تراه صغيرًا، طفلها الوحيد الذي لم يكبر بعد، إلى أن تصطدم بالحقيقة، أنه آن له أن يكبر ويحلق بعيدًا عنها، بعيدًا جدًا، لتبدأ صراعها الأمومي بين حياتها وحياة ابنها الوحيد. |
في ثاني أعمالها السينمائية القصيرة «نور شمس»، تقدم المخرجة السعودية فايزة أمبة تجربة فنية تتماس مع مشاعر إنسانية خاصة وحميمة، في صراع يحمل الكثير من المعاني التي تتماس مع الجمهور الذي يشاهده أيًا كانت جنسيته، صراع الباحثين عن ذواتهم، كيف تبحث عن ذاتك دون أن تترك أهلك يحترقون بنار قراراتك الشخصية؟ كيف تصبو إلى أحلامك ويقبلك الآخرون؟ |
ابن شمس الباحث عن ذاته |
رسمت فايزة أمبة شخصية الابن بتفاصيل تعزز رغبته في بحثه عن ذاته، بين عمله في المستشفى وحبه لكتابة وغناء موسيقى الراب، صراع ترفضه الأم شمس التي لا تريد لابنها أن ينحرف عن المسار التقليدي للحياة، تدفعه إلى أن يكون عاديًا ولا يتشبث بأحلامه التي لن تفيده في مستقبله، ومن جهة أخرى كشفت لنا الطبقة الخفية من صراع الأم التي ترفض أن ترى الأشياء بعين ابنها. |
اختيار موسيقى الراب بالتحديد لتكون شغف الابن هو جزء من رسم شخصيته، التي تفتش عن ذاته الغائبة في نوع موسيقى هو في الأساس يعبر عن الصراعات الشخصية لصاحبها، يفتش عن نفسه في الكلمات التي يكتبها، يسعى إلى السفر بحثًا عن أحلامه المفقودة التي ترفضها الأم. |
يتجلى صراع الفيلم في رفض الأم سفر ابنها، تخبره أنه سيبتعد ويهجرها كما فعل أبوه من قبل، وكأن البعد يشعل هواجسها التي تفقدها شعورها بالأمان، هنا تتفجر الأزمة، تمسك بجواز سفر ابنها، تتحكم في مصيره، وتقاوم رغبتها في تمزيق الجواز كأنها تقص أجنحة أحلامه. |
رفض الأم لسفر ابنها يضعها في دائرة الكراهية، لماذا تمنعه من عيش حياته بالشكل الذي يريد؟ يبدو الأمر قاسيًا، لكن الأم لها حكاية موازية نراها بعيونها. |
شمس والشعور الدائم بالرفض |
في إحدى جلسات شمس مع ابنها تحدثه عن أبيه الذي مات وهو صغير، تتحدث عنه بنبرة حنين بادية، يسألها الابن لماذا تزوجته، فتجيب بانكسار «هو الوحيد اللي حسسني إن أنا جميلة»، وهذه الجملة بالتحديد هي التي تكشف لنا الصراع الداخلي لشمس والذي يرافقها طيلة حياتها. |
لم تكن شمس امرأة جميلة في عيون المحيطين بها، حتى أمها في صغرها كانت تخبرها أنها «عبدة» لن تجد من يحبها ويتزوجها، وهو نفس السبب الذي دفعها للزواج من أبي ابنها الغائب، الذي شعرت معه بأنها مرغوب فيها، جميلة بحسب قولها، لكنه بمرور الوقت تخلى عنها، أعاد الكرة من جديد وتركها ورحل، ليعزز داخلها الشعور بعدم الرغبة والرفض اللذين يلاحقانها على الدوام. |
يتكرر نفس الشعور على مدار الفيلم في تيمة مرتبطة بشمس، وهي الحلوى الإفريقية التي تصنعها. تعمل شمس سائقة في شركة توصيلات خاصة بالسيدات، وتصنع لزبائنها الحلوى التي لا يحبها أحد، وفي كل مرة يرفضن أن يأكلن منها، حتى ابنها لا يحب هذا النوع الغريب من الحلوى، يرفضه ويأكل الحلوى الجاهزة. يتكرر الأمر في العديد من المشاهد، وهي تفصيلة درامية تعزز داخل الشخصية الشعور بأنها مرفوضة حتى في أبسط الأشياء، صناعة الحلوى التي تحبها، وكأن هذا الرفض يغرز أنيابه بداخلها، رفضها يخصها بالأساس. |
انطلاقًا من رفض الحلوى إلى رفض الزوج والابن العيش مع شمس والسفر بعيدًا، تتحول شمس إلى صخرة كبيرة، يغمرها الشعور بالثقل، كأنها مقيدة في جسدها، عيونها على المحيطين لكن لا أحد يلتفت لها أو يفهم رغباتها، أو حتى يبتسم في وجهها امتنانًا. ما يؤلم شمس هو شعورها الدائم بالإيثار، تعطي ولا تأخذ شيئًا في المقابل، حتى جاءت اللحظة التي سرق فيها الابن شبكتها فشعرت بالهشاشة، وأنها لا تعطي الآخرين فقط، بل يُسلب منها أثمن الأشياء. هنا يتبلور السبب الرئيس الذي دفع أزمة الصراع إلى ذروتها مع ابنها، فتتمسك برفضها لسفره بعيدًا عنها، وهو الشيء الوحيد الذي تملك زمام أمره، أن تمنعه بأخذ جواز سفره، وتضعه أمام الأمر الواقع. |
هنا تصل شمس وابنها إلى نقطة أصبحا فيها بعيدين جدًا رغم القرب الشديد. |
الصورة تختزل الوحدة |
ليست بالكلمات وحدها تُحكى الأفلام، بل بالصورة أيضًا، وهذا ما أجادت مخرجة الفيلم توظيفه لتقدم لنا لقطات متكررة للشخصيات ولشوارع المدينة يطغى عليها الشعور بالوحدة، شعور نشعر به دون الحاجة إلى كلمات. |
الشخصيات دائمًا في عالم خاص بها، حتى المشاهد التي تجمع الأم بابنها لا تخلو من لقطات قريبة تركز على وجهيهما كأنهما كيانين منفصلين، وهو توظيف يعكس حالة الوحدة التي تغرق فيها الأم من جهة، والابن الرافض لحياته من جهة أخرى، كأنه لا مجال أن يلتقيا معًا في كادر واحد. |
حدث هذا في مشهد النزهة الخلوية التي جلسا فيها أمام البحر، لحظة صافية يستدعيان فيها ذكريات بعيدة، لحظة صافية ومشهد مهم يفصل بين هذه اللحظة المفعمة بالمحبة، والتصاعد الدرامي اللاحق الذي سيؤدي إلى التوتر الكامل في العلاقة بين شمس وابنها، والذي ينتهي بترك الابن للبيت وبقاء شمس وحيدة، تعيد حساباتها، تتأمل الشوارع والطرق الطويلة التي تقطعها ليل نهار من أجل العمل، وتعيد حساباتها في نظرتها إلى العالم بعيون جديدة، هذه المرة هي عيون الابن. |
نشعر بالتغيير عندما تشاهد شمس القناديل النحاسية المعلقة على جانب الطريق، لا تفهم لماذا تعجب ابنها هذه القناديل التي يكسوها الغبار. لكن في الليل، في الجزء الأخير من الفيلم، ترى شمس القناديل مضاءة، تتلمس جمالها والألوان التي تعكس البهجة على الطريق الطويل، فتعرف أن ابنها صادق في ما قال، ولأول مرة ترى الأشياء بعينيه، وتتقبلها. |
اختارت فايزة أمبة نهاية سعيدة لقصة شمس، والسعادة ليست في عدم سفر الابن وانتصار رغبة الأم، بل في تقبل الأم لابنها، وتقبل رغبة كليهما في تحقيق أحلامهما التي بدت مستحيلة. تترك شمس جواز السفر لابنها برضًا تام، بينما تدفعها الصدفة في نهاية الفيلم إلى الوقوف أمام محل معروض للبيع لترى ابتسامة شمس، ابتسامة أمل في تحقيق أحد أحلامها الغائبة. |
يتركنا الفيلم أمام الابتسامة، وعقولنا تتخيل أنها ستشتري المحل وتبيع فيه أكثر شيء لا يحبه الناس، الحلوى الإفريقية، لا يهم، المهم أن تحقق أحلامها هي وتصنع الشيء الذي تحبه. |
في هذا المشهد يتبلور التغير الطارئ على شخصية شمس، فقد تخلت تمامًا عن شعورها بالرفض، قاومته بالسير فوقه، ومعاندته، والسعي لتحقيق حلمها حتى لو بدا غريبًا في عيون الآخرين، تمامًا كما تركت ابنها يحقق حلمه حتى لو بدا الغناء أمرًا غريبًا في عينيها. |
شارك الفيلم في مسابقة الأفلام القصيرة بمهرجان الجونة السينمائي 2021، وحازت الممثلة السعودية عائشة الرفاعي على تنويه خاص عن تمثيلها لدور الأم في الفيلم. |
نشرة الأربعــاء، من بيت صيف |
للتحميل ( هنا ) |
التعليقات