نشرة سديم البريدية - العدد #2 ( رأيتُ النَخل )

بواسطة سديم #العدد 2 عرض في المتصفح
أم النخــيل هبيني نخلةً ذبلت ( أرشــيف رأيتُ النخل ) 

النخلة هي «الشجرة الأم»، أو «الشجرة المباركة»، كما أطلق عليها العرب منذ عصور قديمة. فالنخلة صديقة العربي التي وقفت إلى جانبه على مر العصور، في مواجهة صعوبة الحياة وقسوة المناخ، فكانت مصدر الخير له، ووسيلته .. 

رأيت النَخل في كل بقعة، وفي صبر أبي، وفي صبري، وفي العَرب جميــــع .. عندما أجلّها العَرب منذ ولادة الجزيرة العربية وقبلها بسنينٍ طوال، أقدّرها بمسافة ٦٠ ألف نخلة مابين العراق والشام واليمن والخليج العربي والسعودية والحجاز ومصر والفرات والمغرب العربي وإلى كل بلدان العـــرب.

      ارشيف نخل بالكامل، للنخل بقية. دائــًما، وإن كنت أطلقته قبل أن اتلقى والتقي بكل نخله في البلاد فذلك لأن ما أبقــــى النـــخل، وما أعجلني.

تعتبر النخلة الشجرة الوحيدة التي يتم تشبيهها بالإنسان، وتعجُّ كتب التراث العربي التي تناولت النخلة بالعديد من التشبيهات، منها أنها تشبه الإنسان في العشق والهوى الناتجين بسبب المجاورة مع نخلة أخرى أوقد يصيبها الملل بسبب شرب ماء واحد وغيرها من الأمور التي ذكرها عبدالقادر أحمد في مقدمته لكتاب «النخلة» للسجستاني (السجستاني 2008م).

ولا يقتصر الأمر على تلك التشبيهات بل لقد حدث توغل لرمزية تشابه النخلة مع الإنسان حتى بدأ الإنسان يتعامل معها كأنها إنسان يسمع ويشعر وقد تحوَّلت الرمزية إلى نوع من الاعتقاد والذي تمخضت عنه طقوس بدأ يمارسها الإنسان، فعامل الرجل النخلة الأنثى كالمرأة حتى أنه إذا وجد في النخلة نوعاً من التمرد بدأ بضربها وتهديدها بالقطع، أما المرأة فقد وجدت في ذكر النخيل أو الفحَّال ما لم تجده في الرجل، فالفحَّال أصبح الذكر الوحيد الذي يستمع لشكوى المرأة ومناجاتها حتى اعتقدت في قرارة نفسها أنه قادر على أن يلبي أمانيها.

ولا توجد حدود للمقاربة بين النخلة والبشر فقد زعمت العرب  أن النخلة تعشـــــــق كالبشر ويكون العشق من فحل لذات حمل ومن ذات حمل لفحل وربما عرض من ذات حمل لمثلها، ومن علامات مرض العشق عند النخلة هو ميلها إلى ناحية المعشوقة وخفة حملها وهزالها من غير سبب ظاهر. لاحظ هنا أن النخلة الأنثى قد تعشق نخلة أنثى مثلها وهذا العشق مثل الداء الذي يستوجب العلاج، جاء في كتاب «النحلة في غرس النخلة» للقطب الشيخ أطفيش الجزائري (توفي العام 1914م): «والعشق هو أن تميل شجرة إلى أخرى، ويخف حملها وتهزل وعلاجها أن يشد بينها وبين معشوقتها التي مالت إليها بحبل أو يعلق عليها سعفة منها أو يجعل فيها من طلعها».

(مقدمة كتاب السجستاني 2008م، ص 23).

في طريق عودتي من بيت سعدون رأيت نخلة في حديقة أحد البيوت بدا واضحاً أن أصحابه قد أهملوها فلم يكرّبوها أو يشذبوا سعفها. تذكّرت بريسم، صاعود النخل الذي ظل يكرّب ويلقّح النخلتين في بيتي لأكثر من ثلاثين سنة. كان سيصرخ غاضباً لو رآها. بريسم كان يدور في الشوارع، وعندما يرى نخلة أهملها أصحابها كان يظل يرن الجرس حتى يخرج أحد من أهل البيت، ليوبّخهم على قسوتهم وغلاظة قلوبهم. أصبح بريسم شبه أصمّ في سنيّه الأخيرة. وكان يصرخ “ما عندي غير الله والنخل. . . ما عندي غير الله والنخل.”  أو “هاي برحية هاي” ولعل الله كان يحبه حقاً لأنّه أخذه ذات ظهيرة وهو يعانق نخلة في بستان كان قد تسلّقها ليلقّحها، فسكت قلبه وهو في التبليّة. مات وهو يعتني بالنخلة التي كان يخاطبها وكأنها بشر. وكان قد أصبح أسطورة بين صواعيد النخل. هذا ما سمعته من جاسم، الصاعود الذي بدأ يعتني بالنخلتين بعد وفاة بريسم. لكن جاسم لم يكن يحب الكلام. 

فكلما سألته : شأخبار النَخَلْ هالأيام؟ 

كان جوابه دائماً مقتضباً وعاماً “الحمد لله أستاذ. كُل شي بخير” المرة الوحيدة التي انفتحت فيها قريحته على الكلام كانت عندما رن الجرس قبل ثلاث سنوات وقال إنه قرر ألا يكمل عمله ذلك الموسم وبأنه سيعود إلى قريته. استعلمت عن السبب. فقال:

  “عمّي آنا رايح لهلي. أكو بيوت أدگ بيبانها يطلعولي ناس ما چانو بيها گَبُل. قسم يَگلون گرايب گاعد يديرون بالهم عالبيت، بس مو دايماً صدگ. أسألهم وين شالَوْ أهل البيت, ما يجاوبون. بس آنا ما أسأل وماأتدخّل. تدري ثْنَعَش واحد من جماعتنا تكتلوا؟ أحسنلي أرجع لهلي أشتغل ببساتين بالجنوب، هناك أمان.” 

أحزنني ما سمعته منه يومها، لكنّي لم أفاجأ، لأنني كنت أعرف وأردد دائماً بأن أحوال النخل لا تختلف عن أحوال البشر، وعليها ما عليهم، ولها ما لهم. الحروب تقطع رؤوس البشر والنخل. أيكون أصحاب ذلك البيت الذي مر من جانبه قد هجروه أم أن من يشغله الآن لا يحب النخل؟ ولكن هل هناك عراقي لا يحب النخل؟ كيف؟ كنت أؤمن بأن من لا يحب النخل لا يحب الحياة أو الإنسان. كم يشبه الإنسان النخلة، ففيها الذكر وفيها الأنثى، يلقح الثانية طلع الأول ويخصبها فتحبل كامرأة وتتدلى أعذاقها. الفسيلة هي الأخرى كالطفل الصغير لا بد أن تحمى من البرد والمطر كــي تشــــب قويــــــة. 

لمحت سعف نخلتي البيت من بعيد وهما تقفان في حديقته الخلفية فبدتا كأنهما تحرسانه. أنا أيضاً أحرس البيت وذكرياته. البيت الذي هو أكثر من بيت. فمثلما ليست النخلة محض نخلة، بل حياة بأكملها، متشابكة مع الأرض التي تحتها وكل ما فيها، ومع السماء التي حولها والهواء الذي تتنفسه بكل ما فيه. فالبيت أيضاً ليس محض طابوق واسمنت وصبغ، بل عمراً بأكمله.

بعد أن توفيت حنّة قالت لي أختي أمل من بين دموعها بعد أن عزّتني على الهاتف من كندا “أحسنلك تبيع البيت وتطلع عيني. شِكْل الأمور راح تنلاص بالأزيد. شعندك بيقي بوحدك؟ تعال عِدْنَا. أو روح يم سليمة بالسويد. بس إطلع يا عيوني. فرفضت كالعادة. “ما راح أطلع. وين أروح واتبهدل بهالعمر؟” 

كي أعطي هذا الحزن جســــمًا                أخضــر رماديًا فاتحًا، فانيًا

من تدويناتـــــــــــي، وأتراحِـــــــي،             وصــــــــــــــبري الأبـــــــــي 

من العظيم أن يجد المرء وقتًا تزهو فيه روحه، وتروق له أفكاره وذكرياته، يجلس فيه مع نفسه ولنفسه، يحادثها مصارحًا ومُعاتبًا لها عمَّا شُغِلَت عنه وانطوت الأحداث عليه من شئون الحياة وصراعاتها المتلاحقة، فلم يجد اهتمامًا منها، تلك اللحظات تجيش في النفس أشتاتًا من المشاعر، تبعث فيها الأمل تارة، واليأس والكآبة تارة أخرى. وعميد الأدب العربي «طه حسين» وجد نفسه في فضاء فصل الصيف الرَّحب جليس خواطر عِدَّة صَحِبَته أثناء سفره إلى «فرنسا»، حيث اجتمع له صفاء السماء، وعليل الهواء، وغريب الحياة وجديدها، فجاد بخواطره التي أحبَّ بعضها، وكره بعضها الآخر، غير أنها تفيض بدفء المشاعر، ورهافة الحِس، وعظيم الفائدة

                       كان أصحاب مكاتب العقارات وغيرهم قد طرقوا باب البيت أكثر من مرة مؤخراً ليسألوا إن كنت أفكّر بالبيع، لكنّي كنت أرفض. أسعار المنطقة كانت في ارتفاع لأنها آمن وأهدأ من غيرها. كما انتشرت فيها بعض المطاعم الأنيقة، وأخذ البعض من الأغنياء الجدد يشترون البيوت القديمة ليهدموها ويبنوا قصوراً ضخمة محلها.

سألني لؤي ذات أمسية ونحن نشاهد التلفزيون: 

”عجب ما فكّرت تطلع عمو؟“

”وين أروح بهالعمر وأتبَهْدَل؟ أتبَهْدل هوني ببلدي أحسن. لو شاب يمكن كان طَلَعْتو. إنتم المســـتقبل 

قدامكم تروحون وتبدون من جديـــــد.

 نحنُ ها هُــــــنا قاعِدون. بعدين هذا البــــــــيــــت أنا بنــــيتونو وعِــــــشْتو بينو نـــــص قـــــــرن وأكــــــــــــــثر. شلــــــون أخلّيـــــــنو وأروح؟“

”أبد ما صار عندك فرصة أو رغبة تطلع قبل؟“

” إجاني مرّة عرض من أبو ظبي بنهاية السبعينات، 

ومرة لِخ بالـ ٨٩ من دبي بس رفضته.“

”ما متندم؟“

”لا. ما سمعت شيقول الگبانچي؟“

”شيقول؟“

”لا تِفْتِكِرْ راحة الــسفر/بيــه شاهَدِتْ كُلّ القَهَر/بيه شاهَدِتْ كلّ التَعَبْ/والــنوم من عيني انْسَــــلَبْ/ما دريــــــــــت أنا،

 ولاحّــــــدْ حِسَـــــبْ.“

[فصل من رواية بعنوان ”يا مريم“ صدرت مؤخراً عن دار الجمل بيروت-بغداد.]

صُنع بمدة ٦٠ كوب قهوة، عشرين دمعة ورثاء وفقدان، ٣ أيام عزاء، إستئناف .. ثم عودة للنخل — ارشيف نخل بالكامل، للنخل بقية.  

    تحية بينهم «تفديك روحي» … ويخر قولهمْ «أفديك هاتِ»

تمّ الجزء الأول، في ابريل، وكان موتك هو الكذبة التي لن اصدقها. 

أما الحقيقة، فإنك حيّ فينا، وإن موت النخيل لم يكن ليعيبك. 

٢٠٢٢ ، دبي، الامارات العربية المتحدة

الأربعاء، العاشر من اكتوبر لنفس العام. 

التحميل هنــا ( للملف كاملًا ، بالارشيف البصري والتدويني ) 

سديم. 

مشاركة
نشرة سديم البريدية

نشرة سديم البريدية

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة سديم البريدية