لا أحد يستطيع امتطاءَ ظهرك إلّا إذا كنتَ مُـنحنيا - العدد #106 |
17 أكتوبر 2025 • بواسطة سـامـي • #العدد 6 • عرض في المتصفح |
"البـراكين ليست صنيعة البشر، وليس لديها فرضية المؤامرة، ولا تخضع للحسابات الإنسانية، وهي ليست رومانسية إلى الحدّ الذي تُـرضيها كلمة حبّ واحدة فتُخمد ثورتها، وليست جبانة إلى الحد الذي يوقفها عن الامتداد تلويحٌ بالعصا في وجهها. وحِمَمُهَا قارّة في باطن الأرض عميقا إلى مئات الكيلومترات؛ فما الذي يجعلها تثور إذا؟! وما الذي أغضبها إلى هذا الحد حتى تقذف بشواظها في كلّ اتّجاه، ويسيل لهيبها في كلّ طريق؟!
إنّــه الضغط الذي ظلّ يكتم أنفاسها حتى ولّد الانفجار." -أيـمن العتوم- |
|
🕐مدّة القراءة: 10 دقـائق🎬 |
بـسم اللّه الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على النبي المصطفى وعلى آله وصحبه ومن والاه. غبتُ فترة عن الكتابة وتوقف القلم السيال عن نسج الحروف، وشاق شوقُ الصفحات للأفكار المعروضة على واجهاتها... ورنّت أجراس نفسي وأيقظتني من تراخيّ وتسويفـي..- مهلا.. هداك الله عُدْ لما بدأت... والزَمْ، لعلّ بنسج الحروف تؤلّف قلوبا، أو تواسي مكلوما، أو تضيء دربًا! أو تمطي الأذى عن طريقِ من يلتمس علمًا... فهـا أنذا أرجو توفيق ربي ومعونته، في كتابة ما يصلح لأن يُقرأ ويفهم ويُنتفع به إن شاء الله.منذ زمن لم أجرء على كتابة "قصة" أو "أقصوصة"، وانتابني هذا الأمر هذه الأيام، وأرجو الله أن أحسن فيه |
ميثاق النـشـر |
باسم الله الخالق المعلّم، أدوّن هذه النشرات من أجل الارتقاء بالنفس، كي لا تهوي بي ريح الفراغ إلى مكان سحيق أو يتخطفني طير اللهو إلى عشّ مضيعة الوقت، فالإنسان يُسأل عن عمره في ما أفناه!! أو شبابه في ما أبـلاه!! |
![]() |
لا أحد يستطيع امتطاء ظهرك إلّا إذا كنت منحنـياً |
في بيتٍ ضيّقٍ تتدلى من جدرانه آثار السنين، ولد يوسف، نشأ على صمت أبيه، رجلٍ تجاوز الخمسين، كأنّ الزمان نفسه تآمر على صوته، فغدا لا يُرى إلا منحنياً. كان يعيش الهوان ولا يتكلم، يُهان فيسكت، ويُظلم فيرضى. |
ورث يوسف عن أبيه السكون، غير أنّ في عينيه بريقاً خافتاً كأنّه شرارةٌ تتوارى خلف الرماد. |
كان يردد في نفسه — من غير أن يجرؤ على النطق — أنــا الغــريق فـما خوفي من البـلل! |
عمل يوسف في مؤسسةٍ عامةٍ، يديرها مسؤولٌ متجبر يرى نفسه فوق القانون، وفوق الناس، وفوق الرحمة. |
لا يمنحهم حقوقهم إلا بعد عناءٍ طويل، وربما لا يمنحها إلا حين يُجبر عليها، وإن تحدث أحدهم عن حقّه رماه بالتمرّد والجحود. |
كانت تلك الكلمة آخر ما احتمل يوسف سماعَه. |
وقف بوجهه متماسكًا، وفي صدره صوتٌ يقول: طفح الكيل، لن أستمر في هذه المهزلة... |
اقترب المسؤول بخطواتٍ متعالية، وحدّق في وجه يوسف قائلاً بنبرةٍ من تحقير: أراك ترفع رأسك أكثر من اللازم يا هذا! إن لم تكن قد تربّيت، فسأُربيك بيدي! |
رفع يوسف بصره بثباتٍ، وقال بهدوءٍ عميقٍ كأنه صوت التاريخ: لقد فُطرت على أنّ الكرامة جوهر الإنسان، وإن ضيّعها فقد ذلّ وكل من هبّ ودب يطأ على ظهره. |
وأتبع قائلا: ألم يان لك أن توقف هذا التعالي؟ السلطةُ ليستْ سَوطًا تُسَوِّطُ به عباد الله، إنها أمانة قبل كل شيء، ومسؤولية. |
تبدلت ملامح الرجل، وارتجف صوته وهو يحاول أن يخفيَ ارتباكه، وأزّتهُ الكلمات أزّا فقد رأى في يوسف صورة الإنسان الحرّ الذي لا يحتاج إلى سلطانٍ ليشعر بكرامته. |
خرج يوسف من المبنى بخطى متزنة، يسأل نفسه وقد أثقل قلبه التأمل: |
ما الذي تذرّه السلطة في عيون أتباعها ليعموا عن الحقيقة؟ |
ما الذي يصنعه الكرسي بهم ليتعالوا على الناس؟ |
لماذا لا تعطي السلطة أبناءها حقهم إلا بضغطٍ خارجي أو بثورةٍ عارمة؟ |
أليس في السلطة رجلٌ رشيدٌ يقود مملكته إلى بر الأمان؟ |
ثم رفع رأسه نحو السماء وتابع حديثه لنفسه: |
ألم يعِ من بيدهم مقاليد الأمر أن الثمرة الناضجة تُقطف من على الشجرة وتُقدَّم إلى مستحقيها فتُؤكلَ شفاءً وهناءً؟ |
عاد يوسف إلى بيته، فوجد أباه جالسًا صامتًا كعادته، عيناه الجاحظتان تبدي لك ندم الدّهر الذي ضيعه في الرّضوخ للمتعالين. |
اقترب منه وقال بصوتٍ مفعمٍ بالهدوء: أبتِ، لقد رأيتُ اليوم ما كنتَ تخشاه عمراً. السلطة لا تملك قلوب الناس إلا إذا تنازلوا عنها. جيوش الظلام كلها لا تستطيع أن توقف تدفق نورٍ، ولو كان خافتًا، قادماً من شقٍّ في بابٍ أُغلق على كل حقيقة. وحين يفيض النور، يُجلّي كل غامض، ويبهت كل كاذب، ويسود العدل، ويَبِيدُ الجُور. |
ابتسم الأب، كأن في قلبه شيئًا تحرر من قيودٍ قديمة، وسمع من ابنه ما كان يأمله في نفسه منذ زمن. |
تلك اللحظة أدرك أنّ ابنه لم يعد يشبهه، بل يشبه ما كان يتمنى أن يكون. |
في تلك الليلة، قبل أن يستسلم لظلمة النوم كتب يوسف في دفتره الصغير: لا أحد يستطيع امتطاء ظهرك إلا إذا كنت منحنياً! |
استيقظ يوسف فجر اليوم التالي، صلى صلاة الصبح ثم أنجز أوراده الخاصة، وأكل فطوره المَلَكي (خبز وزيت زيتون وشاي بالنعناع)، وخرج إلى الشارع قبل أن تشرق الشمس. |
في المقهى القريب، التقى أصدقاءه القدامى - شبابا يشاركونه الحيرة والغضب - وتحدث إليهم بحرقة عن ما يعانيه الناس من الظلم؛ من الذين يعتلون المناصب ليزدادوا ثراءً، بينما الشعب يزداد فقرا وقهراً، ومرضًا، وجهلاً! |
ساد صمت بين الشباب، ثم أردف أحدهم قائلا: إن بقينا ساكتين، سنرث المهانة كما ورثها آباؤنا. |
قال يـوسـف بثبات والحُمرة تغطي بياضَ عينَيْه : |
*** |
هذا هو الجزء الأول من القصة، نلقاكم بإذن الله في الجزء الثاني. |
التعليقات