حَــيْـدرة زَمـــانِــه - العدد #102

27 أغسطس 2025 بواسطة سـامـي #العدد 2 عرض في المتصفح
ذاك الفتى مُذ أن كان طفلا، لم يكن كأقرانه؛ إنه حيدرة زمانه.

بادئ بدءٍ صلوا على النبي المصطفى خاتم المرسلين وسيد الأولين والآخرين.
هذا العدد الثاني ضمن النشرة البريدية، غبت عن التدوين فترة طويلة، وأعرف أنني مستقبلا قد أكرر هذا الغياب لكنني سأحرص على الالتزام بالنشر.
كنت ليلة الاثنين جالسا قرب حديقة المنزل مستصحبا معي الحاسوب وكنت قد فكرت في الموضوع الذي سأتحدث عنه في النشرة وحينما أنهيت نصف النشرة، وكان الحاسوب يفتقر للشحن، فبدل أن أقوم بحفظ النشرة ثم أطفئ الحاسوب قمت بالإغلاق مباشرة، واليوم حينما فتحت الحاسوب وولجت للنشرة لم أجد ما دوّنتُه اللهم إلا أول سطر منها.
انزعجت وشعرت بنوع من الضجر وحدثتني نفسي: كيف سأعيد ما كتبته كما هو؟ لكن لابد من المحاولة وقد تنقدح في ذهني أفكار أخرى أفضل مما دونت البارحة. 
                                                                
ميثـاق النشر
أدوّن في هذه المنصة ما ينفع الأمة ويرتقي بنا عن مستنقع القذى، أقرأ وأتعلم وأكتب باسم الله الخالق العليم.
ٱقرَأ بِٱسمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ ٱلإِنسَٰنَ مِن عَلَقٍ (2) ٱقرَأ وَرَبُّكَ ٱلأَكرَمُ (3) ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلقَلَمِ (4) عَلَّمَ ٱلإِنسَٰنَ مَا لَم يَعلَم (5)

سورة العلق، الآيات: 1-5.

من هو حيدرة؟

يرتبط اسم حيدرة بأحد الصحابة العظام؛ ألا وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، المعروف ببسالته في غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وقد اشتهر بمعاركه الفردية مع كفار قريش واليهود.
وبرز لقب حيدرة حينما غزا النبي خيبر  في السنة السابعة من الهجرة، فلما وصل إليها كان يهود خيبر يتحصنون بحصونها، ففتح رسول الله الحصن تلو الآخَر، حتى وصل لآخر حصن فقال: « لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله عليه، ليس بفرار، يحب الله ورسوله، يأخذها عنوة » فكان ذلك عليٌّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وكان أن خرج لهم مَرْحَبُ اليهودي يريد القتال، خرج وهو يخطر بسيفه، وفي حديث ابن بريدة عن أبيه: خرج مَرْحَب وعليه مغفر مُعصْفر يماني وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه، وهو يرتجز ويقول:

 قد علمتْ خَيْبَرُ أنّي مُرَحَّبُ   

شاكي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ
 إذا اللُّيُوثُ أقْبَلَتْ تَلَهَّبُ

قال سلمة بن الأكوع رضي الله عنه:  فبرز له عامر وهو يقول:

قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي عَامِرُ

شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُغَامِر

قال: فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مَرْحَب في تِرْس عامر، فذهب عامر يسفل له، وكان سيفه فيه قصر، فرجع سيفه على نفسه، فقطع أكحله، وفي رواية عين ركبته، وكانت فيها نفسه، قال بريدة: فبرز مَرْحَب وهو يقول:

قد علمت خيبر أني مرحب   

شاكي السلاح بَطَلٌ مُجَرَّبُ

إذا اللُّيُوثُ أقْبَلَتْ تلهب

وأحجَمَتْ عَن صَوْلَةِ المُغلب

فبرز له علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وعليه جبّة أرجوان حمراء قد أخرج خملها، وهو يقول:

أنا الذي سمتني أمّي حَيدَرَه 

كَلَيْثِ غابات كَرِيهِ المَنْظَرَة
أُوفِيهم بالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ

فضرب مَرْحَبَا ففلق رأسَه، وكان الفتح.

  وفي حديث بريدة، فاختلفا ضربتين، فبدره علي - رضي الله عنه - بضربة فَقَدَ الحجر والمغفر ورأسه ووقع في الأحراش وسمع أهل العسكر صوت ضربته وقام الناس مع عليٍّ حتى أخذ المدينة.

---------------------------------
رأيتُ أن أذكر لكم زمن ومكان ذكر الاسم والسياق كذلك، للاستبصار والاعتبار.
وتتمة البيت الذي قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه في ستة أبيات بعده نذكر القصيدة كاملة كي تتجسد لنا صورة العزة والقوة والمروءة

أنا الذي سمتني أمي حيدره 
ضرغام آجام وليث قسوره 
عبل الذراعين شديد القصره
كليث غابات كريه المنظره 
على الأعادي مثل ريح صرصره 
أكيلكم بالسيف كيل السندره
أضربكم ضربا يبين الفقره
وأترك القرن بقاع جزره
أضرب بالسيف رقاب الكفره
ضرب غلام ماجد حزوره
من يترك الحقَّ يقوم صِغرَه 
أقتُل منهم سبعة أو عشرة
فكُلُّهم أهل فسوق فجَرَه

علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قصيدة مطلعها:  أنا الذي سمتني حيدره،  بحر الرجز، 

لا أقصد في منشوري هذا بالذات تخصيص الحديث عن علي كرم الله وجهه، ولا أن أتحدث تاريخيا عن معركة له، فقط وجدتُني مضطرا لأن أتحدث عن تاريخ ورود هذا الاسم وارتباطه بالصحابي الجليل.
أما الآن فسأحاول أن أدير المِقْوَدَ من جهة اليمين لترسو سفينتنا على بَرّ زمانِنا هذا فنبحث عن حيدرة زمانه!!

من هو حيدرة زمانه؟

   هنا سأتحدث لكم عن حيدرة زماننا بأسلوب الحكاية المشوقة وبشكل مقتضب فلا أقصد أن أضع لكم سيرة ذاتية لصاحبنا، وأترك لكم أن تستنبطوا الاسم الحقيقي للشخصية التي وسمُتها بـحيدرة زمانه. لكن قبل الحكي لابد أن أعطيكم معلومات متناثرة ومبثوثة في الجُحور. شخصيتنا من فلـسطين وبالتحديد أرض عسقلان وبكل دِقّة من غــّزة. أظن أنه تكفيكم هذه المعلومات...

     الآن وقد استوت السفينة على رمال غزّة حانت الساعة لرؤية منكب الجوزاء في الليلة الظلماء. 

                       هذه حكاية "حيدرة" وقد يكون هناك شبه بينه وبين شخصية أخرى لذا احزر من هو حيدرتنا في هذه الرحلة.

  اجتمعوا حولي… فهذه حكاية لا تُروى إلا في سكون الليل. هي حكاية رجلٍ من فلسطين، اسمه بين الناس "حيدرة".

منذ صغره كان قلبه مملوءً بالعناد، كأنما ورث عن أسلافه سّر الزيتون والصخر. وحين شبّ، وجد نفسه في مواجهة عدّو لا يرحم. فكان لا يلين، يقاوم بما استطاع، حتى جاء يوم شّدوه فيه إلى الأغلال وأدخلوه السجن.
كان لحيدرة نشاط طلابي بارز في سنواته الجامعية وقد كان عضوا فاعلا في إحدى الفروع الطلابية، وبعد تأسيس أبرز حركات المقاومة في قطاع غزة خلال انتفاضة الحجارة عام 1987 صار اسمه معلوما لدى الاحتلال لما رأو أياديهم الخفية في القطاع تُبتَر وتُجتثُّ من أعماق الأرض، ولا يعرفون الفاعل... وذلك نتيجة تأسيس جهازٍ أمنيّ عُرف باسم "مــجــد".
كانت مهمة هذا الجهاز الكشف عن عملاء وجواسيس الاحتلال الاسرائيلي... وقد كان "حيدرة" المشرف الرئيس على هؤلاء المعتقلين من الجواسيس والعملاء والخونة فكان يعدمهم جزاء ما فعلوه.

حيدرة قـضى شبابه في الزنازين...

   منذ أن كان يمارس نشاطه الطلابي اعتقل "حيدرة" لمرات عديدة وأول مرة كان يبلغ من العمر 20 عاما. لكن آخر مرة اعتقل فيها كان يبلغ من العمر 26 عاما أُصدر في حقه حكم بأربع مؤبدات نتيجة اتهامه باختطاف وقتل جنديين إسرائيليين، وقتل أربعة فلسطينيين يشتبه تطورهم في العمالة مع الكيان.

  هناك، بين الزنازين، حسبوا أنهم كسروا عزيمته. لكنه كان يضحك في سرّه، ويقول: "كيف يُكسر من اعتاد أن يقيم ظهره على ثرى فلسطين؟" طالت السنوات، لكن السجين صار هو السجّان الحقيقي، فإرادته كانت أقوى من الجدران.  

   في فترة أسرِه لم يظل "حيدرة" مكتوف اليدين، ينتظر الفرَج من عند الله دون أن يعمل بالأسباب، حاول مرّتين الهرب من السجون الإسرائيلية لكنه كان في آخر اللحظات يُكشف فيُعاقَبُ بالسجن في العزل الانفرادي.
تعرّض "حيدرة" لمشاكل صحية في السجن، ما جعل الأسرى يستنفرون ويضغطون على الاحتلال بكل الطرق لعلاجه، وقد تَمَّ لهم ذلك، رغم رفض "حيدرة" للعلاج.

  بعد إجرائه لفحوصات طبية تبين وجود نقطة دم متجمّدة في دماغه ما استدعى إجراء عملية جراحية على دماغه دامت سبع ساعات...

عجيب والله عجيب أمر هذه الأقدار الإلهية... تصوّر معي أن ينقذك عدوّك من الموت ويُجري لك عملية على الدماغ دون أن يفَكِّر في قتلك أو التخلص منك بأي طريقة كأن يدعي أن خطأ طبيا قد حصل أو فشلت العملية فحسب. وهذا يجعلني أذكر قصة آل فرعون مع موسى عليه السلام، حينما التقطه آل فرعون ليكون له عدوا وحزنا حيث قال الله سبحانه: 
﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ۗ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾ وقد راقني هذا التدبّر لهذه الآية لأحدهم: لن تمنعَ جحافلُ البشر الحريصةُ على دفع الخطر ما نزل من القدَر مهما بذلت من الحيل، فقُدرة الله تلقي في أيدي فرعونَ وجنده بالطفل الذي على يديه هلاكهم ليربُّوه لمصيرهم المحتوم! لن يقوى الظالم في ظلمه إلا بأنصار وأعوان، يشيرون أو يباشرون أو يدافعون، فلا غروَ أن يكونَ الجميع خاطئين.

سورة القصص، الآية: 8.

حياة حيدرة في الزنزانة...

    لو كان حيدرة خارج السجن لما فعل ما فعل أثناء مكوثه في السجون الإسرائيلية لمدة ثلاثة وعشرين عاما!! لقد جعل من السجن مدرسة لنفسه ولغيره من الأسرى، ألزم نفسه تعلم اللغة العبرية، والبحث في كل ما يخص أجهزة الأمن الإسرائيلية، وألف كتبا خلال هذه الفترة، درس العقلية الإسرائيلية سواء الأجهزة الحكومية أو العسكرية بالإضافة للاستخباراتية، وقد ترجم عددا من الكتب من العبرية إلى العربية، وألف رواية تحكي قصة النضال الفلسطيني منذ عام 1967 حتى انتفاضة الأقصى، وكان يضع نصب عينيه هدفا واحدا يريد تحقيقه بعد خروجه من السجن، وكأن صاحبنا لا يبالي بالحكم المؤبد الذي صدر في حقه!!

    وهذا ما أقره كبير محققي جهاز "الشاباك" الأسبق ميخائيل كوبي، فقال: "عندما تراه للمرة الأولى فأنت ترى شخصية ذو عيون قاتلة، شخص مؤمن بالله ويعرف القرآن عن ظهر قلب، تعلم العبرية في السجن وأجادها بشكل جيد حتى أنه ترجم كتابين من اللغة العبرية إلى العربية، لم يقل أي شيء في التحقيقات، إنه الرجل الأكثر قسوة الذي التقيته في حياتي"

كان "حيدرة" شخصا مثقفًا ومفكرًا ومبدعًا، يشجع الأسرى على قضاء الوقت المفيد وعدم تضييعه، تطرق ذاكرة "عكار" أبواب السجن قائلا: "كان "حيدرة" صاحب قلم حيث إنه يكتب في اليوم صفحات عديدة لا نستطيع قراءتها، قلمُه كان سيّالا في كافة المجالات الإدارية والسياسية والفكرية والدعوية والوطنية والثورية".

الصفقة المنشودة!

ثم جاءت صفقة شاليط، وخرج حيدرة إلى الضوء من جديد. لم يخرج منكسِرًا، بل خرج أكثر ثباتًا، كمن جُرّب في النار فلم يبقَ فيه إلا المعدن الصافي.

     وها قد حان موعد فكّ الوثاق الذي دام ثلاثة وعشرين عاما، بفضل جاهزية المقاومة وحنكتها ودهائِها استطاعت اختطاف جندي صهيوني يُدعى جلعاد شاليط (גלעד שליט ) ومساومة الكيان الصهيوني به مقابل تحرير 1027 فلسطينيا، وكان من ضمنهم صاحبنا "حيدرة"، وقد أجريت الصفقة عام 2011، وأطلق عليها صفقة وفاء الأحرار" وخلف هذا الاسم وقعت أحداث عجيبة "لحيدرة" وهو داخل السجن، فكما تعلمون كان هو بمثابة القائد للأسرى، وكان باستطاعة الأسرى تهريب الأجهزة من الخارج من ضمنها الهاتف، الذي كان يتواصل به "حيدرة" مع قيادة المقاومة، فكان أن وقع اختطاف شاليط واتفق طرفا الصفقة على تحرير أزيد من ألف فلسطيني ليس من ضمنهم مَقْدِسِيّ واحد... فاتصل "حيدرة" بالقيادة في غزة وأبلغهم رفضه التام لتلك الصفقة ما دامت لا تشمل الأسرى المَقْدِسيين وقد قبلت القيادة رفضه.

وكان ذلك بمثابة رسالة للكيان الصهيوني بأن بيت المقدس وأبناءه هم لُبُّ الصراع ولن يُتخلى عنهم مهما كان.

وقد انزعج الكيان والوسيط الألماني أنذاك وعلموا أن صاحب الرفض داخل السجن، فأخذوا "حيدرة" ورموه في العزل الانفرادي...

   منذ عودته إلى غزة تقلّد "حيدرة" مناصب قيادية انتُخِبَ لها، وكان له دور كبير في التنسيق بين الجانب السياسي والعسكري في الحركة خلال العدوان الإسرائلي على غزة عام 2014.

    وفي عام 2015 عينته حركة المقاومة مسؤولا عن ملف الأسرى الإسرائليين لديها، وكلفته بقيادة المفاوضات بشأنهم مع الاحتلال، وفي السنة نفسها صنفته الوَيْلاتُ المتحدة الأمريكية في قائمة "الإرهابيين الدوليين" كما وضعه الكيان الإسرائيلي على لائحة المطلوبين للتصفية.

حيدرة والطوفان المقدسي!

لقد شهد العالم أجمع تلك العملية صباح يوم السبت في السابع من أكتوبر عامَ ألفين وثلاثة وعشرين، ذكاء وخبرة في الميدان، والوصول إلى الجحور العسكرية للكيان من داخل الأراضي المحتلة بعد مجاوزة الجدار العازل واختراقه.

( أذكر أنني في ذلك الصباح في المدينة التي أتابع فيها دراستي الجامعية، وكنت أتناول الفطور مع صديقي وأخي العزيز إبراهيم قد ضحكنا كثيرا متعجبين، حينما سمعنا أن المقاومة تجازوت الجدار العازل بسهولة... لأن المكينة الإعلامية ضخمت قدرة الجدار الذي أقامته الويلات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني وضخّت فيه أموالا كثيرة، هذا بالإضافة إلى أجهزة استشعارية متطورة وكاميرات ترصد كل شيء. هنالك تأكد لي أن هؤلاء جند الله الذين عملوا بما علموا من الكتاب لأنهم ببساطة رجال ولا كأيّ رجال.)

   قبل عام واحد من الهجوم الكبير، وتحديدا في مهرجان انطلاقة حركة "حماس" الخامس والثلاثين، لم يفهم الاحتلال رسالة "حيدرة" بين حشد من مئات الآلاف من الجماهير المحتشدة وظنها مجرد شعارات رنّانة عندما قال: "سنأتيكم بطوفان هادر وصواريخ دون عد سنأتيكم بطوفان جنود دون حد سنأتيكم بملايين من أمتنا مدًا بعد مد".

   ذلك اليوم لم ير العالم مثله مجموعة بشرية يقدر عددها بين الألف والألفين أو أكثر تخترق "الجدار الذكي" الذي روج له الكيان وتفاخر به برا وجوا وبحرا لم يعرف الكيان الصهيوني ما يجري بالظبط لقد حصل له تشنج على المستوى الاستخباراتي بل حتى العسكري أصاب جنوده الرعب وفر العديد منهم، وصار المقاومون يسحلونهم سحل البعير.

 أخذ الأمر ساعات ليفهم الساسة الصهاينة ما يحدث فهدّدوا بانتقام شديد ووضعوا أهداف عدوانهم وحربهم على قطاع غزة.
ومن ثَمَّ عرفوا أن مدبّر العملية ما هو إلا "حيدرة" زماننا!!

   تتوالى الأيام ويشتد الهجوم على القطاع، بل قرر الساسة الصهاينة غزو غزة برا أو ما يسمى بالعملية العسكرية البرية، فهنا أرسل الصهاينة فلذات كبدهم إلى حتفهم وإلى مقبرة غزة الرملية وقد وعدهم بذلك الناطق الرسمي للمقاومة، وذكرهم بأن غزة مقبرة الغزاة، لم يقدر عليها شارون حينما كانت تقاوم بأسلحة بسيطة، فبالأحرى اليوم!

   كان الكيان الصهيوني يهيج بالغضب وحالة عدم الاستقرار النفسي بين شعبه وساسته وقياداته العسكرية لأن أهدافهم التي أملوا أن يصلوا لها في وقت وجيز وهو ستة أشهر على الأقل، لم يأخذوا منها إلا الدماء والخراب الذي أحدثوه في القطاع بقتل النساء والأطفال وقصف المستشفيات، والمدارس، والجامعات، ومنظمات الأمم المتحدة، ولم يتركوا بشرا ولا حجرا ولا حيوانا، إلا وكان لهم بنكا لأهدافهم، لقد جسدوا "الشخصية الهتليرية" بكل ما تحمل الكلمة وحتى "هتلر" لو أعاده الله للحياة لأحسّ بالاشمئزاز من هذا التصرف الهمجي للكيان. ولتمنّى أن يصلح خطأه ذاك بإبادتهم عن بكرة أبيهم، لأنهم استغلوا المجازر التي ارتكبها هو في حقهم بإحراقهم وإعدامهم في أن يحتلوا بلدا ليس لهم، ويهجرون شعبه.

   ▣    أثناء الحرب وسع الكيان الصهيوني جبهاته وهجم على لبنان واليمن بل وحتى إيران.

   لقد تمثل حلم هذا الكيان "الإحلالي" "الحلولي" ** بتعبير الفيلسوف طه عبد الرحمن في القضاء على المقاومة بدءاً من قادتها أولهم "أبو خالد الضيف"، "وحيدرة"... لكونه يعرف أنهم مدبّروا هذه العملية التي سمتها المقاومة عملية "طوفان "الأقصى"

   ومرت الأيام واستهدف الكيان الصهيوني إقامة رئيس حركة المقاومة بالخارج "إسماعيل هنية" الذي كان يتواجد أنذاك في جمهورية إيران الإسلامية في زيارة رسمية للدولة. ظن الكيان "الإحلالي الحلولي" أنه قد قصم ظهر المقاومة الإسلامية باغتيال غادِرٍ لرئيسها إسماعيل.

   لكنها ردّت بعد أيام بانتخاب أحد أعضاءِ قِيَادَتِهَا رَجُلَنَا الهَمَّام "حيدرة" رئيسا للحركة في قطاع غزة، ما شكل صدمة سياسية وإعلامية، لأنهم يعرفون أن من اعتلى كرسي القيادة شخص لا يهاب الموت ولا يعرف المداهنة وشديد على العدو أيما شدّة، وتمنوا لو أبقوا على "إسماعيل هنية".

مسيرة حافلة وقيادة حكيمة وبدايةٌ للآخرة وصدقٌ مع الله حياةً ومَـمـاتًا!

   غالبا ما يكون رئيس بلد ما أو قائد عسكري لجهة ما يجلس في الكراسي ويدبر أمر معركته مع الأعداء؛ لأن موته وسط المعركة قد يعد خسارة وقد يؤثر في الصفوف والنفوس وتتزعزع الهمم وتخمد نيران شجاعتهم.

لكن هنا الأمر مختلف، لأننا مع قائد همام لا يخشى في الله لومة لائم، وقد كثرت عليه الأقاويل أنه يختبئ مع أسرى العدو في الأنفاق، أو أنه في نفق مجهز بالخيرات وشعبه يتدوّر جوعا ....

في مشهد أسطوري وملحمي تاريخي فريد، استشهد قائد طوفان الأقصى مشتبكًا، وكتب بدمائه رسالة ملهمة لأبناء الأمة وأحرار العالم لمقاومة قوى الاستعمار والصهيونية بالمنطقة، والدفاع عن فلسطين، فلم يقف العمر حائلاً أمام قائد دفع زهرات شبابه في سجون الاحتلال حتى بلغ اثني وستين عاما عن حمل البندقية وتقدم الصفوف، والالتحام في قلب المعركة. فأثخن في العدو أيماإثخان...

https://felesteen.news/p/156346

   كان مشتبكا، يرتدي جعبة حرب، وعلى جانبيه سلاحه، يقف في الخطوط الأولى للقتال بمحافظة رفح يواجه جنود جيش الاحتلال وجهًا لوجه، بينما ينشغل الاحتلال بالبحث عنه بكافة أجهزة التجسس والتعقب طوال عام كامل، ولم يدر أنه يقف أمام دباباتهم متنقلاً بين ساحات وميادين القتال. أطلقت الدبابة الإسرائيلية قذيفة على بيت يتواجد فيه مقاوم، ثم أرسلت طائرة "درون" لمعرفة من بداخله، فاقتربت من ملثم يرتدي الكوفية الفلسطينية تنزف الدماء من يديه التي ربطها بسلك حديدي وحجر محاولا وقف النزيف، يجلس على مقعد في مشهد لا يقل هيبة عن صورة نشرت له عندما وضع قدما فوق الأخرى وهو يجلس على مقعد على أنقاض منزله متحديا للاحتلال، فتجدد التحدي في آخر لحظاته وألقى عصا على طائرة الدرون بعد اشتباك مسلح، لتطلق الدبابة قذائف أخرى انهار السقف فوق المُلَثَّم.

     تقدم الجنود فكانت الصاعقة واضحة، عندما أزالوا اللثام وكان المشتبك هو زعيم حركة المقاومة "حماس" ورئيس مكتبها السياسي "حيدرة"، يتقدم صفوف المقاتلين، بشجاعة لم يعرفوها أو يشاهدوها في سيرة أي قائد أو جنرال عسكري إسرائيلي، الذين يهرعون للملاجئ عند أول صافرة إنذار تنطلق نحو أي مكان يتواجدون فيه. كانت هذه النهاية الشجاعة مغايرة للشكل الذي رسمه قادة الاحتلال وخاصة رئيس حكومة الاحتلال بنیامین نتنياهو بالوصول لحيدرة من خلال تعقب وإعطاء أمر بالاغتيال، ولتنسف دعاية رَوّجها الاحتلال بأن الرجل مختبئ في أحد الأنفاق وبين المدنيين، ليتجلى الفشل الاستخباري مرة أخرى بعدم وصولهم للمطلوب الأول رغم أنه كان يقاتل جنودهم في ميدان رفح، كما تجلى فشلهم في السابع من أكتوبر عندما هندس "حيدرة" خديعة كبرى زلزلت الاحتلال.

   هكذا كانت نهاية "حيدرة" زماننا، نهاية عزّة وفخر، نهاية شهيد بإذن الله، مقبل غير مدبر، ترى في ملامحه صورة الصحابة - رضوان الله عليهم أمثال مصعب بن عمير الذي استشهد مقبلا غير مدبر في غزوة أحد ينافح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تُقطع يده اليمنى فيحمل لواء رسول الله باليسرى وتقطع اليسرى فيحمل اللواء بعضديه وصدره، حتى طعن في الصدر فاستشهد.

وحمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- وعلي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب... وغيرهم من الصحابة الذين أقبلوا على الله صادقين غير مدبرين أطاعوا أمر الله ورسوله وعزموا على أمره، فرابطوا لأجل حمل "الأمانة المقدسة" التي حملها الإنسان في عالم الملكوت وأبتها الخلائق.

وتمسّك بها أمثال "حيدرة" في زمننا هذا الذي سماه طه عبد الرحمن "عالم ما بعد الأمانة"** هذا الطور الجديد الذي دخلته الإنسانية من مصراعيه متخلية عن فطرتها الأصل، ومتمسكة بالإرادة الإسرائيلية**.

         ﴿ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾

سورة الأحزاب، الآية: 23.

***

  أتـاهم يَجُوبُ البِيـدَ بالخَيْلِ والقَنَا

فَتًى عَبْدَلِيُّ فِي الوَغَى غَيْرُ هَائِبِ

ضَرُوبٌ لِهَامَاتِ الكُماة مُعوّد

بِمَنْع التوالي وابتذال الرغائب

فَلَمْ يُنْجِيهِمْ إِلَّا الْفِرَارُ وَجَيرَةٌ

أتت منه ما فيها معاب لعائِبِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفتيان صدقٍ من عُقَيْلٍ أَعِزَّةٌ

ثِقَالُ على الأعدا كرام المناسبِ

به بلغوا أمَالَهُم ومُنَاهُمُ

 وحَلّوا من العَلْياءِ أعلى المراتبِ

هو الأسَدُ الضّرغامُ والسَيِّدُ الذي       

 بَنَى مَجْدَهُ فوق النجومِ الثَّوَاقِبِ 

لهُ خَضَعَتْ غُلْبُ الرِّقَابِ وأصبحتْ

به الأرضُ تَزْهُو بعد تلك الغَيَاهِبِ

◁ الشاعر علي بن المقرّب العيوني.

وهنا أنهي هذا العدد الذي أطلتُ التدوين فيه، وأرجو الله أن ينفع به القارئ وصاحبه.

توضيح المصطلحات:

**الحلول: التعريف الائتماني للحلول: هو احتلال الفطرة المؤصَّلَة، جلبا للقَبولِ بتدنيس الأرض المقدسة.
وهو على وجهين؛ جزئي: قلب القيم، وكلّي: سلب الفطرة، بحيث يكون الإنسان بلا فطرة.
**الإحلال: حدُّه الائتماني: احتلال الأرض، منازعةً للمالكية الإلهية. 
**عالم ما بعد الأمانة: العالم الذي تمحى منه الأمانة من القلوب ويفقد قيمة الحياء فيكون عالما بلا حياء! ويقطع صلته بميثاق الأمانة الملكوتي. (هذا التعريف استنبطتُه من كتاب ثغور المرابطة للفيلسوف طه عبد الرحمن بدءاً من الصفحة 50 إلى 51، قد أكون مصيبا فيه أو مُقَصِّراً.)
**الإرادة الإسرائيلية: الإرادة المؤسَّسة على الفكرانية الصهيونية، والثقافة اليهودية، والسياسة الإسرائيلية.

المراجع:

▼ فلسطين أونلاين: مقال ليحيى اليعقوبي.
▼ الجزيرة نت.
▼متراس: مقال خلاصات المـجـد.
▼كتاب ثغور المرابطة مقاربة ائتمانية لصراعات الأمة الحالية، للفيلسوف طه عبد الرحمن. طبعة: 2019، منتدى المعارف. 

Moussa Sabrariوكيل البداويSAM4 أعجبهم العدد
مشاركة
SAM

SAM

نشرة SAM، عدسات ترصد الأحداث من زوايا مختلفة وبلمسة إبداعية تلهمك في كل عدد.

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من SAM