هشاشة الزائل - لوعة القلب في عالم الفناء (صحبة سماوية)

3 يونيو 2025 بواسطة محمد جمال بخيت #العدد 8 عرض في المتصفح

!
ليس المللُ نابعًا من النفس البشرية فحسب، بل إن كل ما في الدنيا، مهما بلغ من الكمال الظاهري والجمال الأخاذ، ومهما بدا مستقرًا راسخًا في عيون البشر، يحمل في طياته بذور النقص المتأصلة فيه، وتهيؤًا محتومًا للفناء، وهذه هي سنة الله تعالى في مخلوقاته، وهذا هو قدر كل مخلوق، أن يكون زائلًا مضمحلًا، لا بقاء له ولا دوام.
وإن هذا الإدراك -أن كل شيء في الدنيا فانٍ- يورث القلب شعورًا بالهشاشة الدائمة تجاه كل ما يقابله؛ فمهما تعلقت النفس بشيء، أو ركنت إليه، يظل هناك هاجسٌ خفيٌّ ينذر بفراقه في لحظةٍ من اللحظات.
فالجمال يبلى، والقوة تضعف، والثروة تزول، والصحة تتراجع، والشباب يغدو شيخوخة.. وهذه الحقائق ليست مجرد نظرياتٍ صعبة لا يعقلها إلا خاصة الناس، بل هي مشاهداتٌ يوميةٌ تتجلى في كل ما حولنا، من أبهى قصرٍ إلى أضعف ورقة.
هذا الشعور بفناء كل شيءٍ يفقد الأشياء بريقها الأصلي في عين القلب الواعي، ليس هذا معناه أنه يتحتم عليك عدم الاستمتاع بها، بل معناه أن ترسم على جدران قلبك أن كل من عليها فانٍ زائل، وليست صحبته إلا صحبةٌ عابرةٌ في بادية هذه الدنيا وأجوائها المتقلِّبة.
وهذا المعنى يربي فينا الاستعداد الدائم للفقد، ويحررنا من وهم الخلود في دارٍ كتب عليها الزوال. فكيف يطمئن قلبٌ إلى ما علم يقيناً أنه مفارقه لا محالة؟
فإذا علم الإنسان المحدود، المستغرق في فقره ومسكنته، أن كل ما يراه ويملكه إلى زوالٍ وفناء، فإنه يبدأ في بناء صِلاته وقيمه وعلاقاته وأعماله على أساسٍ أعمق وأبقى وأدوم، فيصبح السعي وراء الكمال المطلق، والنعيم الدائم هو الدافع الحقيقي له، وتصبح الأفعال التي تتصل بالباقي -سبحانه وبحمده- هي الأكثر قيمةً وجدوى بالنسبة له.
من رسخ هذا المعنى في قلبه وباشرت أنواره زوايا قلبه المعتمة، كان من أحرص الناس على استثمار أوقاته وجهوده فيما ينفعه في دار القرار، وكان ممن يقدر اللحظات لما يراه من آثارها المتعدية قدرها الدنيوي الزائل.
فيكون من السابقين في الخيرات، تصدقًا بنفسه وماله ووقته وكلمته الطيبة، وتعلمًا وطلبًا للعلم النافع وتعليمًا له، وغيرها من الأعمال التي لا تشبه الدنيا، وكأنه اكتسب سعة أفقٍ أخرويٍ لا حد له.
بعد هذا أود منك أن ترى بعين البصير: كثيرًا ما نصاب بخيبة الأمل عندما نفقد الأشياء التي سعينا إليها -بجهد- بريقها، أو عندما تتلاشى أحلامنا المادية التي بنينا عليها سعادتنا.. فما الذي يخفف عنك وطأة الأحزان ولهيب الأسى المشتعل في داخلك؟
هو هذا الإدراك لهشاشة العالم الذي نحن فيه بما فيه، هذا الإدراك وحسن التصور له بعد استقراره في قلبك، هو ما يخفف وطأة هذه الخيبات التي ستتعرض لها، وهو ما يكسبك تلك "المرونة"، تلك الكلمة التي يحب الناس استخدامها هنا!
فالذي يجعلك أكثر مرونة وقدرة على تجاوز المصاعب والمصائب هو هذا المعنى الذي حقيق بكل طالب نجاة وسلامة أن يديم النظر فيه.
فبدلًا من أن نعلق سعادتنا على مقتنياتٍ قابلةٍ للتلف، أو إنجازاتٍ يصيبها النسيان، نحول تركيزنا إلى المعاني والقيم التي تتجاوز المادة الترابية المصبوغة بالكدر إلى مطالب أسمى وهمم أرقى.
أن يكون هم الإنسان المتقبل لضعفه وعجزه: أن يكون دائم التعلق بالله رب العالمين -سبحانه وبحمده-، دائم الطلب لمرضاته ومحبوباته، كثير اللهج بذكره والثناء عليه وتسبيحه وتحميده، مطالعٌ لفقره التام من جميع الوجوه إليه، لا يرى لنفسه فلاحًا إلا بعون ربه، ولولاه -سبحانه وبحمده- لما كان هو ولا عمله ولا تركه!
يسعى في الأعمال الصالحة المقربة إلى ربه الباقي الحي القيوم، رحيمٌ بالناس، ساعٍ في مصالحهم بما يستطيع، يرى أن أقرب العباد إليه أنفعهم لغيرهم، لا يرجوهم ولا يطلب منهم ثناءً ولا شكرًا، مكتفيٍ بربه مشتغلٌ به مستغنٍ عن كل ما سواه تبارك اسمه وتعالى جده.
هذه هي الأمور التي لا تفقد بريقها أبدًا، لأنها متصلةٌ بمن به حياتنا وقيامنا أجمعين، وهي التي تعطي لحياتنا معنىً أعمق، وتجعلنا نعيش في رضا دائم وحياة طيبة، مهما تبدلت أحوال الدنيا من حولنا.
هذه الحقيقة تحرر الإنسان من قيد السعي اللانهائي وراء الماديات، وتوجه طاقاته نحو ما هو أجدى وأنفع، ليكون له أثرٌ لا يمحى في سجلات الأعمال عند الكتبةِ الكرام، ويستبقي صورته منحوتةً في خبء لا تمحى أبدًا، فما يبقى للإنسان الراحل حقًا هو ما قدمه لربه تعالى، وما خلفه من خيرٍ ينفع الناس من بعده.#صحبة_سماوية

رحمَـة1 أعجبهم العدد
مشاركة
بدايات معرفية

بدايات معرفية

نشرة مخصصة لمشاركة المحتوى المعرفي في مجالات العلوم الإسلامية والجوانب الاجتماعية والحياتية.

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من بدايات معرفية