فخُّ الاعتيادِ: حينَ تبهتُ ألوانُ الدنيا!

2 يونيو 2025 بواسطة محمد جمال بخيت #العدد 7 عرض في المتصفح


من تدبَّر في حِكَمِ الحق سبحانه وتعالى البالغةِ في خلقهِ، وأمعنَ النظرَ في سُننِهِ الكونيةِ التي أودعَها في هذا الوجودِ الفسيح، لوجدَ أنَّ من تمامِ عِزَّةِ اللهِ تعالى وكمالِ تدبيرِهِ، أنَّهُ طبعَ الدنيا على الاعتيادِ المتلبِّسِ بالمللِ، وهذه ليستْ مجرَّدَ خصلةٍ عارضةٍ، كزهرةٍ تذبلُها عوادي الزمنِ برهة، أو غيمةٍ تتلاشى بعد حين، بل هي قدرٌ أصيلٌ في هذهِ الدارِ الفانيةِ، لا تنفكُّ عنها ولا تفارقُها، ولا يستطيعُ أحدٌ من البشرِ أن ينفصلَ عنها أو يغيِّرها. 
هذا الطبعُ الرَّباني العظيم في بنيةِ الدنيا يحملُ في طيَّاتهِ دروسًا عميقةً للروحِ والقلبِ، لمن أرادَ أنْ يعتبرَ وأنْ يفهمَ حقيقةَ ما هو مقبلٌ عليهِ وما هو زائلٌ، ليكونَ له بصيرةٌ لا تحجبُها زخارفُ الحياةِ الفانية.
فانظر إلى نفسكَ والآخرين مَهما اجتهدَ الإنسانُ في أنْ يجمعَ من زينةِ الدنيا أفخمَ الأشياءِ وأعظمَها، وأنْ يمتلكَ أكثرَها تفردًا وجمالًا وبهجةً، ممَّا تتقاصرُ عنهُ أعينُ الآخرينِ وتتطلَّعُ إليهِ النفوسُ بشغفٍ، فإنَّهُ ولا بدَّ واجدٌ فيه خصلتين اثنتين تُبهتانِ ألوانَ الدنيا، وتُذيبانِ بريقَها في عينِ الرائي، كأنَّهما غبارٌ يتراكمُ على مرآةِ القلبِ، ويُلقي بظلالِ شحوبِ الفناءِ عليها.
فهذه النفسُ الإنسانية، وتلكَ الروحُ المعقَّدةُ التي أودعَها الخالقُ في جسدِ الطينِ، هي بطبيعتِها ميّالةٌ إلى التجديدِ، وذاتُ شهيَّةٍ لا تشبعُ من التغييرِ. 
هذهِ النفسُ تسأمُ سريعًا من التكرارِ، وتملُّ من الاعتيادِ، مهما كانَ الشيءُ في بدايةِ أمرهِ جميلًا خلابًا يسبي الألبابَ ويأسرُ القلوبَ! تأملْ أيُّها اللبيبُ في أبهى الثيابِ التي اقتنيتَها، أو أشهى الأطعمةِ التي تذوَّقتَها، أو أجملَ الأماكنِ التي زرتَها، أو حتى أروعَ العلاقاتِ التي أبهجَتكَ.. ألمْ تجدْ أنَّ بهجةَ اللحظةِ الأولى تختلفُ جذريًا عن شعورِ التعودِ عليها؟
إنَّ نشوةَ الاكتشافِ، ولذَّةَ الامتلاكِ، وفرحةَ التجربةِ الجديدةِ، كلُّ ذلكَ سرعانَ ما ينحسرُ، ليحلَّ محلَّهُ شعورٌ بالاعتيادِ، ثمَّ قدْ يتسلَّلُ المللُ شيئًا فشيئًا، حتى يصبحَ ما كانَ مبهجًا بالأمسِ عاديًا اليومَ، وربما مملًا غدًا!هذا الميلُ المتأصِّلُ إلى المللِ ليسَ عيبًا في النفسِ، بقدرِ ما هو صوتٌ خفيٌّ، وصيحةٌ مكتومةٌ طبعت فيك لتوجيهِ هذهِ النفسِ إلى ما هو دائمٌ لا يملُّهُ القلبُ، وإلى ما هو مطلقٌ لا يحدُّهُ زمانٌ ولا مكانٌ. 
فهو إذنْ تربيةٌ إلهيَّةٌ للنفسِ كي تتسامى عنِ الماديَّاتِ والأتربة والفانيات، وتنظرَ إلى ما وراءَ الحجبِ، لتُدركَ أنَّ سكينتها الحقيقيَّةَ ليستْ في زينةِ التُّرابِ الزائلةِ، بل فيما هو أعمقُ وأبقى.
ففي عمقِ الروحِ، تكمنُ تلكَ الزوايا العتيقةِ التي لا يطالها ضجيجُ الدنيا، وثمَّةَ حنينٌ فطريٌّ إلى ما هو كاملٌ ومطلقٌ لا يعتريهِ نقصٌ ولا تغيُّر. 
فإذن عندما يعيشُ الإنسانُ في دوَّامةِ الاعتيادِ والمللِ من كلِّ ما يحيطُ بهِ، فإنَّ هذا الشعورَ يُوقظُ فيه إحساسًا بالفراغِ، وظمأً لا يُروى بماءِ الدنيا الفاني، وعندما تُسمعُ صرخةُ القلبِ الذي يبحثُ عن قرارٍ، عن ثباتٍ لا يتزعزعُ، عن أمانٍ لا يعتريهِ خوفٌ.. هذا الحنينُ يُشبهُ لوعةَ المشتاقِ الكظيمِ، الذي يعلمُ أنَّ سعادتَهُ ليستْ في حيازةِ المزيدِ من الأشياءِ الزائلةِ، بل في الارتباطِ بما هو باقٍ أبديٌّ!.. 
فمتى ما أدركَ القلبُ هذهِ الحقيقةَ، بدأَ يتوقُ إلى ما هو أبعدُ من حدودِ هذهِ الحياةِ، ويتجهُ بوجههِ نحوَ الوصالِ بالحيِّ الذي لا يموتُ -سبحانه وبحمده- الذي في الفرار إليه وحدَهُ دون من سواه تجدُ روحهُ الطمأنينةَ الحقيقيَّةَ التي لا تتبدَّدُ ولا تفنى ولا تزول! 
هذا الحنينُ ليسَ وهمًا، بل هو دليلٌ على أنَّ الروحَ ليستْ من هذا العالمِ، وأنَّها خُلقتْ لغايةٍ أسمى ونعيمٍ أبقى.
ولتعلم أن هذا الطبعَ في الدنيا ليسَ عقابًا، بل هو رحمةٌ وحكمةٌ بالغةٌ من ربِّ العالمين -سبحانه وبحمده- فلو كانتِ الدنيا تدومُ على حالٍ واحدةٍ من البهجةِ والجمالِ الذي لا يملُّ، لتعلَّقتْ بها القلوبُ تعلقًا أبديًا، ولنسينا الهدفَ الأسمى من وجودِنا، ولما سعينا إلى ما هو أبقى وأدومُ!
فالمللُ الذي يصيبك في الدنيا ومنها، هو صرخةٌ خفيَّةٌ من الروحِ لصاحبها، تُنبئُه بأنَّ موطنَها الحقيقيَّ ليسَ هنا، وأنَّها خُلقتْ لغايةٍ أعظمَ من مجردِ الاستمتاعِ بلحظاتٍ زائلةٍ، أو هو دافعٌ يدفعُ الإنسانَ للتفتيشِ عنِ السكينةِ الأبديَّةِ، وعنِ الملاذِ الذي لا يملُّهُ القلبُ ولا تبلى أطايبُهُ. وربما يكون دعوةً للتفكُّرِ في الآخرةِ، وفي اللقاءِ بمنْ هو الحيُّ القيُّومُ الباقي -سبحانه وبحمده- في نعيم دار كرامته وكرمه الذي لا يطرأ عليهِ المللُ ولا الفناءُ.

هذهِ الحقيقةُ تُربي فينا الزهدَ القلبيَّ، وتُعلِّمُنا كيفَ نُقيمُ موازينَنا، وكيفَ نُدركُ أنَّ القيمةَ الحقيقيَّةَ ليستْ في كثرةِ المقتنياتِ، بل في غنى النفسِ، وفي صفائِها الذي لا يتلوَّثُ بعبءِ الاعتيادِ والمللِ، وأن النجاحَ الحقيقيَّ ليسَ في جمعِ حطامِ الدنيا، بل في تحريرِ القلبِ منهُ، وتوجيهِ بوصلةِ السعيِ نحوَ ما هو خالدٌ وباقٍ، وهو عملٌ يستغرقُ العمرَ، ويثمرُ في الآخرةِ.
اللهم عفوك وعافيتك وأمنك وأمانك وإعانتك وهداياك وتوفيقك.

رحمَـة1 أعجبهم العدد
مشاركة
بدايات معرفية

بدايات معرفية

نشرة مخصصة لمشاركة المحتوى المعرفي في مجالات العلوم الإسلامية والجوانب الاجتماعية والحياتية.

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من بدايات معرفية