عبور محطات التوقف!

2 يونيو 2025 بواسطة محمد جمال بخيت #العدد 6 عرض في المتصفح

فِي خضمِّ المسيرةِ المهنيةِ التي يخطُّها كلٌّ مِنَّا، قدْ نُصادفُ محطاتِ توقفٍ غيرَ متوقعةٍ، حيثُ تتوقفُ عجلةُ العملِ لأسبابٍ متعددةٍ تتجاوزُ أحيانًا سيطرتَنا المباشرةَ. هذه الفتراتُ، التي قد تُلقي بظلالها على المشهدِ العامِّ، ليستْ سوى فرصةٍ ثمينةٍ لإعادةِ تقييمِ المسارِ، وشحذِ الهمَّةِ، والتحضيرِ لانطلاقةٍ ذاتِ أفقٍ أوسعَ.
والقدرةُ على تحويلِ هذه المحطاتِ إلى نقاطِ انطلاقٍ جديدةٍ هي بصمةُ المهنيِّ الحصيفِ، ودلالةٌ على مرونةِ الشخصيةِ وقدرتِها على البناءِ رغمَ التحديات.


وفي مواجهةِ هذه الفتراتِ، تطفو على السطحِ مشاعرُ طبيعيةٌ كالإحباطِ أو القلقِ، وهي استجاباتٌ إنسانيةٌ طبيعيةٌ لا تخلو منها أيُّ رحلةٍ مهما كانت في هذه الدنيا، ولكنَّ الحكمةَ لا تكمنُ في قمعِ هذه المشاعرِ أو تجاهلها، بل في تقبلها كجزءٍ أصيلٍ من مرحلةِ التحولِ التي أنتَ فيها.
هذا التقبلُ الواعي، والرضا القدريُّ هو بوابةُ المرونةِ النفسيةِ، ويفتحُ آفاقًا جديدةً لإعادةِ صياغةِ الرؤيةِ الذاتيةِ والمهنيةِ بل والحياتيةِ، فالتوقفُ المؤقتُ يُمكِّنُ المرءَ من التركيزِ على فُرَصٍ جديدةٍ للتعلمِ والنموِّ والمراجعةِ الكامنةِ في هذه المرحلةِ، بدلًا من التشبثِ بما مضى والتحسرِ على ما فُقِدَ والتسخطِ على ما حدثَ.
هذه النظرةُ الإيجابيةُ ليستْ مجردَ تفاؤلٍ، بل هي منهجيةٌ إيمانيةٌ وتربويةٌ تميزُ أولئكَ الذين يخرجونَ من التحدياتِ بمكاسبَ إضافيةٍ تفوقُ أولئكَ المنحصرينَ غيرَ المتجاوزينَ لظواهرِ الأحداثِ، مستفيدينَ من كلِّ منعطفٍ في الحياةِ كدرسٍ عميقٍ وعبرةٍ بالغةِ الأثرِ تشهدهم حجمَهم الحقيقيَّ في هذا العالمِ ومدى حوجتِهم لمن يُعينهم ويتولى أمرَهم ويَهديهم ويُسددهم، ويُخرجهم من ضيقِ أفقِ هذه الحياةِ إلى أفقٍ أوسعَ وأرحبَ.


الفكرةُ هي أنَّ بناءَ هذه المرونةِ النفسيةِ في أوقاتِ التوقفِ -التي ستُعبرُ وتُتجاوزُ- هو استثمارٌ طويلُ الأمدِ في قدرتِكَ على التكيفِ والتقبلِ لأيِّ بيئةِ عملٍ مستقبليةٍ يمكنُ أنْ تقابلكَ، وكأنكَ قد اكتسبتَ راحةً بعدَ رقدةِ التوقفِ تُعينكَ على قادمِ سعيكَ.
وأيضًا تجاوزُ هذه المحطةِ يتطلبُ منكَ إنْ صحَّ التعبيرُ: صياغةَ "ميثاقِ صمودٍ" داخليٍّ؛ يكونُ بعيدًا عن كونهِ تمنياتٍ عابرةً، وإنما التزامٌ عميقٌ وواقعيٌّ ينبعُ من بصيرةٍ نافذةٍ ورؤيةٍ استراتيجيةٍ واضحةٍ.
هذا الميثاقُ بمثابةِ خارطةِ طريقٍ شخصيةٍ تطالعُهُ كلما توقفتَ وتهتَ، يتضمنُ أنَّ كلَّ يومٍ في هذه الفترةِ سيُستثمرُ بفاعليةٍ قصوى في تطويرِ نفسِكَ وإحسانِ استغلالِ وقتكَ.
ما يمكنك تضمينه مهنيًا في "ميثاق الصمود":
 • التقييمُ الذاتيُّ الشاملُ: ابدأْ بتقييمٍ دقيقٍ لمهاراتكَ الحاليةِ، ونقاطِ قوتكَ، ومجالاتِ التحسينِ التي ترجوها، واستخدمْ أدواتِ التقييمِ الذاتيِّ المتاحةَ عبرَ الإنترنتِ، وفكرْ في طلبِ ملاحظاتٍ بناءةٍ من زملاءٍ سابقينَ أو موجهينَ تثقُ بهم.
 • تحديدُ الأهدافِ الواضحةِ: صغِ أهدافًا محددةً، قابلةً للقياسِ، قابلةً للتحقيقِ، ذاتَ صلةٍ، ومحددةً بزمنٍ لما تودُّ إنجازَهُ خلالَ فترةِ التوقفِ هذهِ، سواءً كانَ ذلكَ في تعلمِ مهارةٍ جديدةٍ، أو إنجازِ مشروعٍ شخصيٍّ، أو توسيعِ شبكتكَ المعرفيةِ.
 • وضعُ جدولٍ زمنيٍّ مرنٍ: قمْ بتنظيمِ وقتكَ اليوميِّ بفاعليةٍ، معَ تخصيصِ فتراتٍ للتعلمِ، والبحثِ عن عملٍ، وأخرى لممارسةِ الأنشطةِ التي تعززُ إيمانَكَ ويقينكَ، فأنتَ لستَ جسدًا بلا روحٍ! وإلا كنتَ جثةً، فاسقِها من كوثرِها وجُلْ بها في مدائنِ بهجتِها. فالمرونةُ أساسيةٌ للتكيفِ معَ المستجداتِ والتعاملِ معَ التقلباتِ وليستْ لجسدٍ أشبعَ وروحٍ متهالكةٍ.
 • تأسيسُ نظامٍ للمساءلةِ: شاركْ أهدافكَ معَ شخصٍ تثقُ بهِ (صديقٍ، مرشدٍ، زميلٍ) ليساعدَكَ على البقاءِ متحفزًا ومسؤولًا عن تقدمكَ، ويمكنُ أنْ يكونَ هذا التشجيعُ الخارجيُّ دافعًا قويًّا في أوقاتِ التحدي، ويعززُ من شعوركَ بالالتزامِ.


وتذكرْ أنَّ: القوةَ الدافعةَ الحقيقيةَ تكمنُ في الشغفِ بالتعلمِ المستمرِّ والتطورِ، وهو ما يدفعُ المرءَ قدمًا، مهما بدتِ الظروفُ المحيطةُ معقدةً، وأنَّ النفسَ التي تحملُ معاليَ عاليةً، وحسنَ ظنٍّ ويقينٍ وثقةً بالوعدِ الصادقِ، ومستعدةً لبذلِ الجهدِ في صمتٍ وتركيزٍ، هي التي تمنحُ الفردَ القدرةَ على تجاوزِ المعوقاتِ وتحقيقِ قفزاتٍ نوعيةٍ في مسارهِ المهنيِّ تحديدًا وحياتهِ تعميمًا.


الخلاصةُ: التعاملُ معَ فتراتِ التوقفِ المهنيِّ يتجاوزُ مجردَ البحثِ عن فرصةٍ جديدةٍ، فهو عمليةٌ تربويةٌ شاملةٌ تتطلبُ إعادةَ تقييمٍ، وتنميةً لقدراتِ المرونةِ والتكيفِ، وصياغةً واضحةً للمتاحِ.
إنَّ الاستثمارَ في هذه الفترةِ ليسَ رفاهيةً، بل هو ضرورةٌ حتميةٌ لتقديمِ قيمةٍ في سوقِ عملٍ متغيرٍ باستمرارٍ، فكثيرٌ من القياداتِ والمهنيينَ البارزينَ يشهدونَ بأنَّ أصعبَ التحدياتِ كانتْ هي منارةً للقفزاتِ النوعيةِ في حياتهم، فهذا المنظورُ يُرسخُ فيكَ فكرةَ أنَّ التوقفَ ليسَ نهايةَ المطافِ، بل محطةَ صيانةٍ وإعدادٍ للانطلاقِ نحو آفاقٍ أرحبَ، معَ بناءِ شخصيةٍ مهنيةٍ تتسمُ بالوعيِ والقدرةِ على مواجهةِ المتغيراتِ بثقةٍ وإيمانٍ، مستشعرًا قيمةَ الإحسانِ في استغلالِ كلِّ وقتٍ وكلِّ فرصةٍ.
كيفَ تعاملتَ معَ فتراتِ التوقفِ المهنيِّ في مسيرتكَ؟ وما هو "ميثاقُ الصمودِ" الذي ساعدكَ على تحويلها إلى محطةِ نموٍّ وتطورٍ؟ شاركنا حكمتَكَ وتجربتَكَ.






مشاركة
بدايات معرفية

بدايات معرفية

نشرة مخصصة لمشاركة المحتوى المعرفي في مجالات العلوم الإسلامية والجوانب الاجتماعية والحياتية.

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من بدايات معرفية