هل تتحكَّم بنا "الجينات"؟

بواسطة د. فادي عمروش #العدد 27 عرض في المتصفح
هل تتحكَّم بنا جيناتنا؟ أو بمعنى أدقّ، هل تحكم علينا جيناتنا بأن نتَّجه في مسارٍ مهنيّ محدَّدٍ دون غيره؟

يُعبّر مصطلح الجينات عن "المَلَكات الشَّخصيَّة" أو "المواهب الخَلْقيَّة" التي يُولد بها الإنسان، تلك الصِّفات التي تجعله مميَّزاً فيها عن غيره، وهذه الصِّفات موجودةٌ بالفعل لدى كلٍّ منا على اختلافها، وتفاوت نسبتها، ولكن ما يهمّنا في هذه العجالة، هل تتحكَّم بنا جيناتنا؟ أو بمعنى أدقّ، هل تحكم علينا جيناتنا بأن نتَّجه في مسارٍ  مهنيٍّ محدَّدٍ دون غيره؟

علينا بداية محاولة التمييز بين الجينات والميول الشخصية، فالميول الشخصية هي مجرّد رغبة تعترينا لسبب أو لآخر باتجاه شغف اتجاه عمل ما، ولكن قد تكون تلك الميول لا علاقة لها بالجينات أو المواهب أبداً. قد يعترينا شغف هائل وميل لتعلّم عزف البيانو، ونعتقد لوهلة أنّه حلم حياتنا لتأثرنا بشخصية ما، ولكننا لا نراعي خلال ذلك الحماس أو الشغف إذا كان لدينا الجينات اللازمة أصلاَ لذلك.

على أيّة حال، من المؤكّد أنّ للميول الشَّخصيَّة، والمهنيَّة أثراً في حصول الشَّغف اتجاه عملٍ ما، ولكن ذلك الأثر مؤطَّرٌ بكيفيَّة استثمارنا، وتنميتنا لهذه الميول، قد يكتشف أحدهم أنَّه يمتلك ميولاً كبيرةً في مجال الكتابة والتَّعبير، ولكنَّه لا يبذل أدنى جهدٍ في تنمية مهاراته اللُّغوية، ولا يحقِّق نجاحاً في دراسة قواعد النَّحو والإملاء وغيرها، ولا يسعى كذلك إلى تطوير أساليبه في الكتابة والعرض، فهل يمكن بعد ذلك أن يكون لميوله الشَّخصيِّ دورٌ هامٌّ في مساره المهنيّ؟

بالتّأكيد لا، فكلّ شخصٍ لديه الميول المهنيَّة، و يملك الشَّخصيّة الخاصَّة به، ولكنَّ هذه الميول ليست سوى "مادَّة خام" لا يمكن أن تصنع شيئاً وحدها دون أن ندفع بأنفسنا باتّجاهها، ونصقل مهاراتنا بما يتوافق معها.

عند الحديث عن الجينات أو الملكات الشَّخصيَّة فنحن هنا نتحدَّث عن فكرةٍ مرتبطةٍ بالميول بشكلٍ، أو بآخر، ولكنَّنا نعني بها بالتَّحديد تلك الصِّفات التي ولدنا بها، وأصبحت جزءاً من تكوين شخصيّتنا دون أيّ تأثيرٍ خارجيٍّ.

يركّز البعض، ومنهم الكاتب "مالكوم جلادويل" على أنَّ للجينات الدَّور الأهمّ في تحقيق النَّجاح في المسار المهنيِّ، ويجعل هذا الافتراض  العملَ، وبذلَ الجهد أمرين ليس لهما قيمة! للوهلة الأولى ولكن يركز الكاتب دوماً أن النجاح يحتاج مع الجينات لـ 10 آلاف ساعة عمل.

ولمعرفة الدَّور الفعليِّ الذي تلعبه الجينات في عمليَّة النَّجاح يحضرني الكاتب دافيد أسبتن  والذي ألّف كتاب "The Sport Gen" حيث يتمحور الكتاب حول السّؤال التَّالي:

?Nature or Nurture

David Epstein

بمعنى "الطَّبيعة، أم التَّنشئة؟" مشيراً إلى سؤالٍ هامٍّ مفاده: أيُّ من هذين الأمرين هو السَّبب في النَّجاح والتَّميّز؟  أهي الطَّبيعة أم الصِّفات التي نُخلق بها، أم هي الأمور التي نتدرّب َعلى أدائها؟!

يذهب الكاتب إلى البيانات التي تشير إلى أنَّ بعض الأشخاص لديهم القدرة الجينيَّة التي تساعدهم في جعل الممارسة لبعض الأنشطة أكثر فاعليَّة من أولئك الذين يقومون بالممارسة ثمَّ لا تؤدِّي ممارستهم تلك إلا لبعض التَّحسينات الهامشيَّة، ويُستدلُّ على ذلك الأمر من خلال ممارسة الأنشطة الرِّياضيَّة، إذ يبرزُ دور الملكات الشَّخصية في أنَّها السَّبب الذي نرى فيه شخصين يقومان باتِّباع خططٍ تدريبيَّةٍ متطابقةٍ تماماً، ومن ثمَّ نشاهد نتائج مختلفةً لكلٍّ منهما، ويعزو ذلك بشكلٍ أساسيٍّ إلى أنَّ الملكات الشَّخصيَّة تدعم الشَّخص في الوصول إلى نتائج أفضل، وفي إجابته على سؤال "الطَّبيعة أم التَّنشئة" يقول: إن إحداهما عديمة الفائدة دون الأخرى!

العمل الجاد والجينات

العمل الجاد والجينات

إذاً لبلوغ درجاتٍ عاليةٍ من الكفاءة، لابدَّ من استغلال هاتين النُّقطتين بشكلٍ متشابكٍ كما يشير  قول "أبستين":

“A braid of nature and nurture so intricately and thoroughly intertwined as to become a single vine.”
 

David Epstein

ويعني بذلك أنَّه يجب الجمع بين الطَّبيعة، والتَّنشئة، كما لو أنَّنا نريد أن نصنع منهما "جديلةً"، وذلك ليتمَّ الدَّمج بينهما بشكلٍ شاملٍ، ومعقَّدٍ، حتى تصبحا وكأنَّهما شيءٌ واحدٌ.

ولابدَّ من الوقوف قليلاً مع ما قاله الكاتب:

الفكرة التي تحدَّث عنها الكاتب عن أن الطَّبيعة والتَّنشئة لا أهميَّة لإحداهما دون الأخرى هي فكرةٌ نسبية، ولا يمكن تعميمها إلا في اتّجاهٍ واحدٍ، ألا وهو أنَّه لا فائدة للطبيعة دون التَّنشئة، فلا يمكن لشخصٍ الاستفادة من موهبةٍ طبيعيَّةٍ قد خُلقت معه إذا لم يتعهَّدها بالممارسة والتَّدريب، ولكن هل بالفعل لا فائدة للتنشئة دون الجينات؟ يختلف الكاتب "كال نيوبورت" في هذا الأمر وهو متحيّز بعض الشيء لفكرة النجاح بالاجتهاد فقط، ويعتقد كال نيوبروت أنّ الاجتهاد يجعلك تحب أي شيء.

ثانياً: قد يكون الكاتب "كال نيوبورت" متحِيّزاً بعض الشَّيء حينما حصر فكرة النَّجاح بالاجتهاد فقط، ولكنَّ ذلك لا يُقلِّل من قيمة الاجتهاد على كلِّ حالٍ، وبمقارنة أفكار الكاتبين "نيوبورت" و"ابستين" يتبيَّن لنا أنَّ الأشخاص الذين ليست لديهم أفضليَّة في الصِّفات الجينيَّة بمجالٍ ما، يمكن أن ينجحوا في هذا المجال من خلال الممارسة والتَّدريب المكثَّفين، ولكنَّ ذلك لن يؤدِّي بالضَّرورة إلى التَّميُّز، أو إلى أرقامٍ قياسيّةٍ بسبب غياب "وقود الانطلاق"، أو "الدّفعة الأوَّليَّة"، ولا يعني ذلك بأيِّ حالٍ أنَّهم غير قادرين على تحقيق إنجازٍ في هذا المجال.

الجينات بدون اجتهاد لا طائل منها ولكن هل الاجتهاد والانضباط هو جينات هل العمل الجاد هو موهبة، هل كل الناس قادرون فعليَّاً على الالتزام بالعمل الجادِّ، والصَّبر على الممارسة المتعمّدة لتحقيق النَّتائج التي يرغبون فيها، أم أنّ ذلك أمر جيني أصلاً.

Hard work is Talent

Chris Teague

إذا كان العمل الجاد موهبة بحد ذاته فربّما عدنا للمربع الأول.

الله المستعان.

تنويه هام

تصلكم هذه الرسالة بسبب اضافتكم لنشرة خارج الصندوق البريدية لكونكم قد اقتنيتكم أحد المنتجات الرقمية لي،أو قمتم بحضور ورشة معي، يمكنكم إلغاء الاشتراك من خلال الرابط أسفل الرسالة بحيث لا يتم ارسالها لكم لاحقاً.

Fahed AljghinelujainRama Al Mansour12 أعجبهم العدد
مشاركة
نشرة خارج الصندوق البريدية

نشرة خارج الصندوق البريدية

نشرة دورية تصدر كلّ يوم سبت، يصدرها د. فادي عمروش تتضمن فكرة خارج الصندوق مع اغناءها بالروابط وما بين الكلمات، لتقول وجدتّها

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة خارج الصندوق البريدية