هل يستحًّق النجاح المادِّي كلَّ ذلك؟ |
8 يوليو 2025 • بواسطة د. فادي عمروش • #العدد 127 • عرض في المتصفح |
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللّٰهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ (القصص : ٧٧).
|
|
لا ريب أنَّ جوهر السعادة يكمن في تقليل التوقعات والقناعة بما بين أيدينا، وبالمقابل يتحقق النجاح من حالة عدم الرضا، والسخط على الواقع الحالي لتغييره للأفضل! في الحقيقة؛ من يرضى بما لديه يعش سعيداً، في حين أنَّ الساعي للنجاح لن يكون سعيداً إطلاقًا! ومن سخرية المواقف أن يقول الناجح بعد أن ينجح: "سأرضى بما وصلت إليه لكي أكون سعيدًاً وسأكون زاهداً" وهنا يُطرح سؤالٌ جوهريٌّ: يهل يستحقُّ النجاح كل هذا العناء؟ |
والسؤال السابق لم يكن منِّي، وإنَّما كان افتتاحية بودكاست شهير مع نافال رافيكانت (Naval Ravikant)، إذ باغته المحاور بالسؤال السابق لتكون أفضل افتتاحية بودكاست. |
لكي تكون سعيداً عليك التصالح مع فكرة الرضا الذي بدوره يأتي من طريقين: الأول أن تمتنع عن الرغبة والثاني أن تمتلك كل شيء! وهنا استحضر نافال نافال قصَّة سقراط حين دخل السوق، ورأى مظاهر الرفاهية فقال: «كم من أشياء في هذا العالم لست بحاجة إليها». في هذا الامتناع عن الرغبة يكمن شكل من أشكال الحرية، كما يورد قصَّة الإسكندر الأكبر القائد الذي غزا العالم عندما طلب من الزاهد أن يطلب منه ما يشاء، فأجابه الزاهد أن يبتعد كي لا يحجب عنه الشمس. |
تجسِّد هذه المفارقة خيارين متناقضين: إمَّا امتلاك كل شيء، وإمَّا الرغبة في لا شيء. ومن هنا، يلفت نافال إلى أنَّ السعادة قد تأتي من طريقين مختلفين: إشباع الرغبات، أو إخمادها. لكنَّه يعترف بعدم وجود إجابة قاطعة حول الأفضلية. فالأمر في النهاية شخصي، متعلِّق بتعريفنا الخاص للنجاح. |
يطرح نافال تحدِّيًا فلسفيًّا: إذا كان الهدف النهائي هو السعادة، فلماذا لا نختصر الطريق إليها مباشرة بالرضا؟ لِمَ علينا أن ندور في هذه الدائرة من الطموح والنجاح وصولاً إلى الرضا؟ وهنا يتساءل بذكاء هل يمكن أن نقتنع أن الرضا والطمأنينة هما طريق السعادة من دون أن نختبر النجاح المادي قبل ذلك وننفر منه؟ بعد ذلك يعترف نافال بأنَّه لم يكن ليصل إلى تلك القناعة لولا أنه اختبر النجاح المادِّي أولًا. يذكّرنا هنا بقصَّة بوذا الذي عاش أميرًا قبل أن يتخلَّى عن الرفاهية بحثًا عن معنى أعمق. |
![]() رحلة اللانهاية نحو النجاح والرضى |
يكرِّر نافال فلسفته الجوهرية بعبارةٍ موجزةٍ: «السبب في الفوز بلعبة ما هو أن تتحرَّر منها». نحن نلعب ونربح، لكننا سرعان ما نشعر بالملل، وقد نستمر في اللعب من أجل المتعة لا من أجل هوس الفوز، ولكي نفوز علينا أن نعاني! فالمعاناة جزء من تحقيق المكاسب طويلة الأجل. يشبِّهها باختبار المارشميلو الشهير: تأجيل المتعة الحالية من أجل مكسب أكبر لاحقًا! لكنه يحذِّر في الوقت نفسه من الإدمان على الألم، أو جعله هدفًا في حد ذاته، فعندما يخبو وهج النجاح، تبدأ دورةً جديدةً من الرغبة والسعي والملل. |
في الواقع؛ لا ينكر نافال أهمية المال، بل يعترف صراحة بقيمته وقدرته على حلِّ المشكلات المادية، لكنَّه يدعونا إلى الوعي بهذه الدائرة: الرغبة، والمعاناة، والإشباع، ثم الرغبة من جديد. |
لا يخفى على أحد تأثُّر نافال بالفلسفة البوذية، وعليه أجد من الضروري التعريج على الرؤية الاسلامية لتحقيق تقاطعات معينة، إذا انتقلنا من تأمُّلات نافـال رافيكانت الفلسفيَّة إلى الرؤية الإسلاميَّة، وجدنا أنًّ اعترافًا بقيمة النجاح المادي دون أن يرفعه إلى مرتبة الغاية القصوى، بل يضعه في مقام الأداة الموصلة إلى مقاصد أسمى؛ إذ يقول تعالى: |
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللّٰهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ (القصص : ٧٧). |
فالآية تُقِرّ «النصيب من الدنيا» وتحضُّ في الوقت نفسه على توظيفه لبناء «الدار الآخرة». بهذا الميزان تتجاوز الشريعةُ معضلةَ «الرغبة أم الرضا؟» لتقول: الرغبة مطلوبة ما دامت مُهذَّبة، والرضا مطلوب ما دام مقرونًا بالسعي، وهنا يحضرني الدعاء الشهير: اللهم ارزقني وارزق بي، وبذلك يكون المرء قناةً يَجري الرزق من خلالها إلى الآخرين، لا خزانًا يُحبَس فيه، فالمال الصالح في يد العبد الصالح نعمة تتعدَّى صاحبَها إلى غيره؛ قال ﷺ: «نِعْمَ المالُ الصالحُ للرَّجُلِ الصالح» (رواه أحمد) |
ونعود هنا للسؤال الأول: هل يستحقُّ النجاح المادي كلَّ ذلك؟ لم لا نشعر بالرضا من البداية ونختصر الطريق؟ |
ربَّما، علينا الوصول إلى النجاح للاقتناع بما سبق! وربّما إذا عُدِّل مسارُ النجاح من «أنا» إلى «نحن»، ومن «هوس التملّك» إلى «عمارة الأرض»، ومن الربح الشخصي للربح الجماعي أي حين يربح الشخص يربح معه الآخرون! وهنا يمكن أن نسقط ذلك بمقولة الخليفة عمر بن عبدالعزيز: «إن لي نفسا تواقة لا تعطى شيئا إلا تاقت إلى ما هو أعلى منه ، وإني لما أعطيت الخلافة تاقت نفسي إلى ما هو أعلى منها» ولكنه تدارك فأكمل «وهي الجنة; فأعينوني عليها يرحمكم الله». |
دمتم بخير |
التعليقات