لذَّة التسويف: لماذا يغرينا الحلم أكثر من الحقيقة؟ |
بواسطة د. فادي عمروش • #العدد 93 • عرض في المتصفح |
ما نريده حقاً، ليس الحصول على ما نرغب فيه، ولكن فعلياً، نريد التمسك به كشيء بعيد المنال
|
|
في إحدى عطلات نهاية الأسبوع، قرَّر أحمد شراء دراجة هوائية. قضى ساعاتٍ في مشاهدة فيديوهات المراجعات، وبحث في مواقع التسوُّق الإلكتروني عن أفضل المواصفات، ورسم في خياله رحلةً حافلةً بالمغامرة على مساراتٍ جبليةٍ وجولاتٍ رومانسيةٍ في الأحياء القديمة، وعندما وصلته الدراجة أخيرًا ركب لأسبوع بحماسة، وبعد ذلك مضت الأسابيع من دون استخدام، بدا وكأنه فقد حماسته المفاجئة، فتُركت مركونةً في زاوية المنزل لأسابيع، وكأن به يعيش سعادة "الفكرة" لا "الفعل" نفسه. |
هذه الحادثة قد تبدو مألوفة لدى كثيرين؛ فكم من المرات أقبلنا على شراء كتابٍ ثم لم نقرأه قط، أو انضممنا لنادٍ رياضيٍ دون الانتظام في التمرين، فهل نحن حقًا نريد الأشياء لما هي عليه، أم أننا نتوقُ لتجربة الحلم والإمكانية فقط؟ |
يقال إنَّ الإنسان كائنٌ "حالمٌ" بطبيعته، وأنه مدفوعٌ برغباته وأشواقه أكثر مما هو مدفوعٌ بتقييمٍ حقيقيٍّ لحاجاته. في الواقع، إننا في كثيرٍ من الأحيان لا نشتري الشيء لأننا سنستخدمه فعلًا، بل لأننا نحب "سردية" اقتنائه في أذهاننا. وكأن فعل الشراء ذاته يرمز إلى حلمٍ أكبر وأجمل، يهزُّ وتر حماستنا ويمنحنا طاقةً قبل حتى أن نجرِّب ذلك الشيء. |
يذكِّرنا هذا بما يُسمَّى في علم النفس بـ"نشوة التوقُّع"، وهي الحالة التي يشعر فيها الإنسان بدفقةٍ من الدوبامين -المادة الكيميائية في الدماغ المرتبطة بالشعور بالمتعة والتحفيز- كلما تخيّل مكافأةً أو إنجازًا يلوح في الأفق، مما يخلق لديه شعورًا بالنشوة والترقّب يكون أحيانًا أقوى من المتعة التي سيحصل عليها عند الحصول على تلك المكافأة فعلًا. |
عندما نحلم بركوب الدراجة في الطبيعة، أو نتخيّل أنفسنا نقرأ كتابًا عميقًا ونحتسي القهوة في هدوء المساء، فنحن -ولو مؤقتًا- نعيش بهجة ذلك المشهد ونشعر بسعادةٍ مُسبقةٍ، وهذا أمرٌ إنسانيٌّ مشروعٌ لا ضرر فيه، لكن تنشأ المشكلة عندما يكتفي الإنسان بالدخول في دائرة التخيُّل إلى ما لا نهاية، فيتحوَّل الحلم إلى بابٍ خلفيٍّ للهروب من واقعٍ قد يكون مُرهِقًا أو مُخيِّبًا للآمال. |
يميل عالِم النفس الأميركي "دان غيلبرت" إلى لفت الانتباه إلى حقيقة أن الناس أحيانًا يبالغون في تقدير سعادتهم المستقبلية التي ستأتي من أهدافهم؛ فيتخيلون حياةً ورديةً مذهلةً عند امتلاك هذا الشيء أو ذاك، وعندما تتحقق الأمنيات؛ يتفاجؤون بأن الواقع أقلّ زهوًا مما ظنّوا، فنجدهم مصابين بفتورٍ وإحباطٍ، أو يعودون للبحث عن "حلمٍ" آخر يُلهمهم. ما يحدث هنا هو أنَّ الإنسان مدفوعٌ أكثر برغبة "التحسين المستمر" والانتقال من إمكان إلى آخر، لا بنشوة الفعل نفسه. |
في عصر الاستهلاك والسرعة، يرتبط امتلاك الأشياء غالبًا بالصورة الاجتماعية والدلالة الرمزية. نحن لا نشتري السيارة الفخمة فقط لنقودها، بل لنعرضها -بوعيٍ أو بغير وعي- كإشارةٍ إلى ذوقنا أو نجاحنا أو مكانتنا. حتى الكتب؛ قد تُوضع على رفوف المكتب أكثر ممَّا تُقرأ، وكأنَّ الإنسان يشتريها أحيانًا ليقنع نفسه والآخرين بأنه مثقفٌ وواسع الاطِِّلاع. |
يشير عالم الاجتماع الفرنسي "جان بودريار" إلى أنَّ السلع ليست مجرد أشياءٍ ماديةٍ تُستهلك، بل هي "دلالاتٌ" ورموزٌ اجتماعيةٌ. وهكذا، يصبح فعل الشراء نوعًا من التعبير عن الذات وحلم الانتماء إلى طبقةٍ أو فئةٍ معينةٍ، وكلما قوِيت رمزية السلعة في ثقافتنا المعاصرة، ازدادت الحماسة لشرائها والاستمتاع بفكرة "احتمال" استخدامها. |
إن إبقاء الرغبات في حيِّز التخيُّل يضفي على الإنسان شعورًا وهميًا بالحرية؛ فهو يعيش عشرات البدائل الممكنة دون الالتزام بتحقيق شيءٍ محددٍ في الواقع. في كتابه "مفارقة الاختيار"، يشير "باري شوارتز" إلى أنَّ الإنسان قد يحس بضغطٍ نفسيٍّ عندما تُكثِر عليه الخيارات؛ إذ إنه يخشى فقدان أي خيارٍ محتمل، ويُطيل زمن التردُّد والانتظار والاستمتاع بالتوقُّع، بدلًا من أن يُحسم الأمر. |
عندما يشترى أحمد الدراجة، يُصبح أمام مسؤوليَّة تجاه نفسه؛ إما أن يركبها فعليًّا في الصباح الباكر، أو تُضاف إلى قائمة الأشياء المنسيَّة، وفي الحالتين ثمة "قرارٌ" يرافقه احتمال خسارة تلك اللذة الحالمة. وعليه، يُسوِّف الفعل لاشعوريًّا ليحافظ على "وهم الخيار المفتوح"، وما ينطوي عليه من نشوة الاحتمال. |
ما نريده حقاً، ليس الحصول على ما نرغب فيه، ولكن فعلياً، نريد التمسك به كشيء بعيد المنال، أن نحلم بالحصول به، ان نعيش ترقب الحصول عليه يوماً تلو الآخر، وتخيّل السعادة الجمة حين نحصل، ونتحمس كل يوم دون الوصول إليه. |
دمتم بخير |
فادي |
التعليقات