نحن في خطر بدء تلاشي الوظائف ذات المهارات المتوسطة |
بواسطة د. فادي عمروش • #العدد 94 • عرض في المتصفح |
إنَّ اختفاء الوظائف متوسطة المهارات أشبه بزلزالٍ يضرب شريحةً واسعة من مجتمعنا العربي والدول النامية
|
|
لقد تحدَّث الاقتصادي تايلر كوين في كتابه Average Is Over عن اختفاء "المتوسط" في سوق العمل العالمي عمومًا، لكن في منطقتنا العربية والدول النامية، قد يبدو هذا التلاشي أشدَّ إيلامًا؛ فهنا لا نحمل فقط إرثًا اقتصاديًا هشًّا، بل نواجه افتقارًا للبنية التحتية التعليمية والتقنية القادرة على مواكبة التطور السريع، وبذلك يصبح خطر الأتمتة ونقل الوظائف إلى الخارج (Offshoring) مضاعفًا مع العمل عن بعدٍ والعمل المستقل والتعهيد، وما يزيد الطين بلَّة تصاعد دور الذكاء الاصطناعي التوليدي الذي يحلُّف المشكلات البسيطة والمعرفية التي كانت تتطلب في السابق مهارات متوسطة. |
من "التوظيف المتوسّط" إلى هاوية التهميش |
في الماضي، كانت المهن متوسطة المهارات مثل كتابة المحتوى، والسكرتارية، والبرمجة البسيطة، وإدخال البيانات، إلخ.. مصدر أمان لشرائح واسعة من الشباب العربي. أما اليوم، فالوظائف التي تتسم بسهولة الأداء عن بُعد صارت تُحوَّل إلكترونيًا إلى عمالةٍ أخرى أرخص، أو تُدار محليًا عبر روبوتات وأنظمة ذكية، أما من بقي منهم ضمن هذه الفئة، فيجد نفسه وقد أُرهق بالمنافسة، سواء مع أجهزة الكمبيوتر أو مع موظفين في دولٍ أخرى. |
يحضرني هنا مصطلح الاستقطاب المهاري (Skill Polarization)، كما يصفه البروفيسور ديفيد أوتر من MIT والذي يشير إلى ظاهرة في سوق العمل إذ تتزايد فرص العمل في الوظائف ذات المهارات العالية والمنخفضة، بينما تتقَّلص في الوظائف ذات المهارات المتوسطة. هذا الاتجاه غالبًا ما يُعزى إلى التقدم التكنولوجي، مثل الأتمتة والرقمنة، التي تحل محل المهمَّات الروتينية التي يؤديها العمال ذوو التعليم والتدريب المتوسط. |
يؤدِّي هذا الاستقطاب في المهارات إلى "تفريغ" الطبقة المتوسطة، إذ تتقلص فرص العمل ذات الأجور المتوسطة، مما يساعد في زيادة التفاوت الاقتصادي. بالإضافة إلى ذلك، يحد هذا الاستقطاب من التنقل الوظيفي، إذ يجد العمال ذوو المهارات المنخفضة صعوبة في الانتقال إلى وظائف ذات أجور أعلى بسبب الفجوة في متطلبات المهارات. |
|
في أحد أحياء القاهرة، أو عمَّان، أو الدار البيضاء منذ 10 سنوات، قد تصادف شابًا أنهى دراسته الجامعية أو حصل على شهادةٍ تدريبيةٍ متوسطة في إحدى المهن، مُحاطًا بآمالِ أبٍ يتطلَّع إلى مستقبلٍ آمنٍ لابنه. مشهد مألوف في منطقتنا العربية؛ إذ اعتدنا أن تكون تلك "الوظائف المتوسطة المهارة" جسر العبور إلى حياةٍ مستقرة، لكن لو صادفت الشاب نفسه بعد سنوات قليلة، فقد تجده في مواجهة واقعٍ يتلاشى فيه هذا النوع من الوظائف على نحوٍ لم نشهده من قبل، ويكمن السبب في الأتمتة، والعولمة، وثورة الذكاء الاصطناعي التوليدي. |
الذكاء الاصطناعي والعولمة أيضاً |
خلال السنوات الأخيرة، برز الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI) من خلال تقنيات تعتمد على تحليل كميات هائلة من البيانات لتوليد محتوى وأفكار وحلول برمجية، وتزداد هذه التقنيات تطورًا يومًا بعد يوم، لتغزو مجالاتٍ كنا نظن أننا نحتكرها كبشر، بدءًا من الكتابة والترجمة، وصولًا إلى تحليل البيانات وإدارة بعض العمليات الحسابية المعقدة. في عالمٍ كان يتطلب توظيف شخص متوسط المهارة لأداء هذه المهمات، بات من اليسير على شركة ناشئة في دبي أو القاهرة الاستعانة بأداة ذكاء اصطناعي توفر عليها الجهد والمال، ما يُقصي دور الإنسان صاحب المهارات المتوسطة ويهدده بفقدان الوظيفة تمامًا. |
على صعيد آخر تلقي العولمة بظلالها، فهي في صورتها الأحدث لا تُعنى فقط بـ"تصدير" المُنتج، بل أصبحت تعني “نقل” المهمات الوظيفية بلا قيود حدودية، فإذا أتيحت للشركات العالمية فرصة توظيف مُبرمِج أو مُدخل بيانات من أي بقعةٍ على الأرض بأجرٍ أقل، فإنها ستفعل ذلك فورًا، وعلى الرغم من أن البعض ظنَّ أن هذا قد يشكل فرصة للعامل العربي نظرًا لانخفاض قيمة الأجور في المنطقة، لكن المنافسة العالمية تجعل الأمر أكثر تعقيدًا؛ إذ لا تقتصر المنافسة على الدول العربية، بل تتعداها لدولٍ أخرى ذات كثافة سكانية عالية ومستوى معيشة متدنٍّ. وبالتالي، لا تضمن هذه المنافسة سوى مزيدٍ من الضغط على شريحة واسعة ممن كانوا يحلمون بالاستقرار عبر "الوظائف المتوسطة". |
ماذا بعد؟ |
إن اختفاء الوظائف متوسطة المهارات أشبه بزلزالٍ يضرب شريحةً واسعةً من مجتمعنا العربي والدول النامية؛ شريحة كانت يومًا تعتزّ بقدرتها على توفير حياةٍ آمنة لأسرها، ومع دخول الذكاء الاصطناعي التوليدي ميدان العمل، بات الخطر أكثر وضوحًا! إمّا الارتقاء واللحاق بمستوى المهارات الرفيعة، وإمَّا الانزلاق نحو وظائف هامشية مُرهقة وبلا مستقبلٍ واضح. |
كما يلمّح تايلر كوين في كتابه، إنَّ مناعة "المتوسط" إلى زوال. في منطقتنا، نحن بحاجةٍ ملحَّة لتدارك الأمر بالتركيز على التعليم القائم على الإبداع وحلِّ المشكلات، وإتاحة الفرص التكنولوجية للجميع. إنَّها معركةٌ قد تُعيد رسم ملامح الاقتصاد العربي برُمَّته، وتحدد إن كنا سنكتفي بالمشاهدة من الهامش، أم سنخوض غمار التغيير قبل أن يجرفنا التيار. |
علينا الانطلاق بمبادرات تزيد المعرفة والخبرة والتنافسية لتلك الشرائح قبل أن تجد نفسها عاطلة عن العمل! |
التعليقات