إنكِ لخيرُ أرضِ الله

24 سبتمبر 2025 بواسطة من المكتبة🪟 #العدد 4 عرض في المتصفح
تأتيكم نشرتنا في لبوسٍ زاهٍ يحمل وعيًا ثقافيًا متجددًا! 📖

يسير في الصحراء على ظهر ناقته. الرمال الذهبية تمتد أمامه بلا نهاية، والريح تعزف على وجه الأرض نغمها الأزلي. ومع ذلك، لا يشعر بالوحشة؛ إذ يجد سلواه في اللانهاية، في حرارة الرمل تحت أقدامه، في صوت حافر الناقة تغرق بالأرض، وتخرج على السطح كأنها تطلب النجدة والهواء .. كإيقاع قلبٍ نابض، خطوة تتلو خطوة، يدندن على أثرها أهزوجة قديمة دون أن ينتبه.

 عهد الحربي

في هذا الخلاء الشاسع الذي يبدو بلا حياة، يرى بعينين ضيقة من الشمس الحياة النابضة من العدم: كل ظل نخلة، كل بئر ماء، كل وجهٍ مألوف يصبح وطنًا صغيرًا يدرج في ذاكرته. يلقى الأحبة بعد طول غياب، يكتشف أن الوطن ليس فقط أرضًا، مصافحة، عناق، ودمعة تُذرف على الكتف. كأنه قاطن في كف دافئة تجيد احتواء التعب ، وشعور بالأمان يغسل البدن من الرأس حتى القدم. 

ما الوطن ؟ فكرة أم مادة ؟
هل الوطن أرض تطأها أقدامنا؟ أم معنى مجرد كإحساس فطري دفين؟ لماذا نشعر بالرغبة في البكاء حين نسمع النشيد الوطني أو نرى إنجازًا يرفعه أبناؤنا عاليًا؟ سرّ هذه الرجفة التي تدغدغ القلب فخرًا حين نشعر أننا ننتمي لشيء أكبر، حتى وإن لم نقدّم شيئًا بعد؟ هل هي الفطرة؟ أن يرتبط الإنسان بمكان يحتضنه، بهوية تميّزه. ألهذا يبقى الوطنُ حاضرًا لمن اغترب؟ يتكلمُ بصوته، يظهر في إيماءاته، ويهمسُ في شكل لهجته.

إنكِ لخيرُ أرضِ الله

النبي ﷺ حين خرج من مكة مهاجرًا وقف على مشارفها وقال: “والله إنكِ لخيرُ أرضِ الله، وأحبُّ أرضِ الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منكِ ما خرجت” حبٌ صادقٌ للأرض، للمكان الذي نشأ فيه، الذي حمل طفولته وشبابه، الأرض الذي عاش فيه أمهُ وأبيه، البيت الذي احتضنه فيه جده وعمه، الكهف الذي آوى إليه في شبابه. لم تكن مكة مجرد تربة، بل هوية وذاكرة، وقطعة من القلب، فيها تزوج أطهر نساء الأرض، أصبح أبًا، حملت زوايا تلك الأرض لحظات تأمله، لياليه التي صلى فيها خاشعًا! 

على مر العصور، كان الوطن نبض الشعراء ومرآة الحنين في قصائدهم. في العصر الجاهلي، وقفوا على الأطلال باكين الديار التي غادرها الأحبة، فصارت الأرض كلها مرآةً لشوقٍ لا يزول. وابن زيدون، في منفاه الأندلسي، ذرف الدموع على قرطبة، فكان وطنه لحظةً ضائعةً تُستعاد بالذاكرة والوجدان. وفي الشعر الحديث، أصبح الوطن رمزيةً للحرية والهوية، وموئلاً للأحلام والانتماء العميق. أما في الأدب السعودي، فقد غنى الشعراء للوطن حبًا ووفاءً منذ تأسيسه، فيما صوّره الروائيون فضاءً حيًّا يتنفس التحوّل والتجدد، حيث يلتقي الماضي بأفق المستقبل. 

الوطن كرمز وذاكرة

الوطن ليس مساحةً تُرسم بخطوط على الخريطة، بل نبضٌ يسري في تفاصيلنا اليومية !  هو في رفرفة علمٍ أخضر يحمل الشهادة، يذكّرنا بأن جذورنا مغروسة في الإيمان وأن حياتنا تضاء باليقين. هو في لهجة الأجداد التي إذا لامست مسامعنا في الغربة، تذيب المسافات وتعيدنا إلى حضن البيت. وهو في لقاءٍ عابر مع ابن الوطن بعيدًا، حيث تتحول النظرة الأولى إلى ابتسامة دافئة، كأنها جسر خفي يعيدنا إلى الديار وكل ما نحبّه وكل ما يشبهنا. 

"ولي وطنٌ آليتُ ألا أبيعَهُ ، وألا أرى غيري له الدهرَ مالكا عهدتُ به شرخَ الشبابِ ونعمةً ، كنعمةِ قومٍ أصبحُوا في ظلالِكا"

- ابن الرومي - 

الوطن

الحاضر في القلب دائمًا 
قد لا نكون قدّمنا بعد الكثير لوطننا، لكن شعور الرغبة في الفداء حاضر لا يغيب، كغريزة تسكننا منذ الميلاد. تلك القوة التي تجعلنا ننهض كل صباح بفخر، وذلك الحلم الذي يجعلنا نؤمن أن كل خطوة صغيرة هي لبنة في صرحٍ عظيم.

تساؤلات تبقى حيّة

الوطن .. أهو قطعة أرضٍ تُقاس بالأميال؟ أم هو شيء ما يسكن أعماق القلب ويجعل لكل يوم معنى؟ أهو الأم التي تمنح بلا حساب، فنكبر على عطائها كما يكبر الغصن من جذرٍ ثابت؟ أم هو الأخ الذي نقاسمه الخطوة والمصير، فنمضي معه كتفًا بكتف مهما ثقلت الأيام؟

الوطن أكبر من تعريف .. هو الأمان حين نضيع، واليقين حين نتردد، والحنين الذي لا ينطفئ مهما ابتعدنا، الوطن ليس سؤالًا يبحث عن إجابة بقدر ما هو شعور يتجدد في كل موقف. الوطن هو كل هذا وأكثر. هو نحن، في صورتنا الأجمل والأصدق، هو الحلم الذي لا ينتهي، واليقين الذي لا يذبل. 

أعدت النشرة: عهد الحربي

لولوه1 أعجبهم العدد
مشاركة
نشرة من شرفات قرطبة

نشرة من شرفات قرطبة

ليستقيم اتصالنا بالحياة.. اختارت لك قُرطبة هذه الشرفات ✨

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة من شرفات قرطبة