مشارف التمكين من "غُلبت الروم"

25 يونيو 2025 بواسطة فؤاد العمري #العدد 8 عرض في المتصفح

الخبر والقصة التاريخية إذا وردت في القران فهي سنة إلهية، وقانوناً تاريخياً يصبح منوالاً يهدي الأمة كلما تشابهت الظروف، وما ذاك إلا لتكوين نظرة استقرائية، والخروج بنواميس لواقع الأمة ومستقبلها، وهو فتح عظيم من فتوح القران الكريم.

ففي مستهل سورة الروم لا تقتصر الإشارة فيها إلى واقعة تاريخية واحدة، وإنما تشير إلى تغيرات الماضي والمستقبل معاً، فمجال الحديث -قبل موضوعه- توجيه للوعي المسلم للتفكير في مصير البشرية، وأن يكون متحسباً للأحداث العظمى حماية لدينه ومصيره، فالآيات متضمنة لإرهاص وتبشير بانتقال مدافعة المسلمين من المحلية حول المسجد الحرام إلى العالمية، وتعطي إطار مرجعي مبكر للحضور الدولي.

ولنا في معرفة سبب الفرح بغلبة الروم درس استراتيجي؛ فإضافةً للتعليل أن الروم أهل كتاب وأنهم أرشد عقيدة وأقرب مودة من الوثنيين، يبين المفسرون تعليلاً آخر وهو محبة أن يَغلِب العدو الأصغر "الروم" لأنه أيسر مؤنة، فإنه متى غَلب الأكبر (الفرس حينها) كثر الخوف منه.

فالله يهيئ القوة الجهازية للرومان لتحطم شوكة القوة العظمى الفرس، فيخرجون منتصرين ولكن منهكي القوة، مما يمهد طريقاً لنصر المسلمين وفتح عظيم على أنقاض القوتين، فالآيات تدعو القائمين بالحق للاستعداد لحسم هذا الصراع لصالحها، ليس بنصر قوة على أخرى، وإنما بإبعاد القوتين معاً لصالح المسلمين.

فقبيل نزول آيات سورة الروم كان قد هُزم الجيش البيزنطي في معركة حاسمة خارج أنطاكيا، وواصل الفرس احتلال أراضيهم حتى دخلوا القدس عام ٦١٤م، وهي الهزيمة الأشد وقعاً على البيزنطيين، وفي العام ذاته -الموافق للسنة الرابعة للبعثة- نزلت سورة الروم على النبي صلى الله عليه وسلم، لتلفت نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الواقع الاستراتيجي الدولي الذي ستصنعه هزيمة الروم في أدنى الأرض، وهي الشام، وأن هذه الهزيمة ستكون مؤقتة، وبين الهزيمة والانتصار سنوات ستمتليء بأحداث دموية وصراعات هائلة بين الطرفين، لكنها ستنتهي بإضعاف الطرفين، وستفتح في جدار المنظومة الدولية شقوقاً، ستسمح لقُطْبٍ فتيٍّ جديد بملء الفراغ ووراثة الإمبراطوريتين المتنازعتين.

ثم إن التوجيه القراني يمُدّ نظر المسلم، ويدعوه للتأمل في المدى الزمني الأبعد من لحظته، سابقاً ولاحقاً، وذلك بالسير في الأرض، كما عقبت الآية بعد ذلك: ﴿أَوَلَم يَسيروا فِي الأَرضِ فَيَنظُروا كَيفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذينَ مِن قَبلِهِم كانوا أَشَدَّ مِنهُم قُوَّةً وَأَثارُوا الأَرضَ وَعَمَروها أَكثَرَ مِمّا عَمَروها وَجاءَتهُم رُسُلُهُم بِالبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظلِمَهُم وَلكِن كانوا أَنفُسَهُم يَظلِمونَ﴾، فالسير في الأرض دعوة عملية وعقلية لاستقراء آثار الحضارات الماضية مع القائمة، والتأمل في مصائرها طبقاً للسنن الفاعلة فيها بأمر الله.

فإذا ما تأملنا التحولات السابقة لصراع الروم وفارس قبل البعثة؛ وجدنا تفسيراً ثقافياً وأخلاقياً لانحدارها، وفي ذلك يقول ولي الله الدهلوي: اعلم أن العجم والروم لما توارثوا الخلافة قروناً كثيرة، وخاضوا في لذة الدنيا، ونسوا الدار الآخرة، تعمقوا في مرافق المعيشة، وتباهوا بها، فدخل كل ذلك في أصول معاشهم، وصار لا يخرج من قلوبهم إلا أن تمزع، فلما كثرت هذه الأشغال تشبّح في نفوسهم هيئات خسيسة، وأعرضوا عن الأخلاق الصالحة.

والأقاليم الصالحة لتولُّد الأمزجة المعتدلة كانت مجموعة تحت المُلْكين الكبيرين لكسرى وقيصر، وكان كسر هذين الملكين والتسلط على ملكهما بمنزلة الغلبة على جميع الأرض، وكانت عاداتهم في الترفه سارية في جميع البلاد التي هي تحت حكمهما.

فلما أراد الله تعالى إقامة الملة العوجاء، وأن يخرج للناس أمة تأمرهم بالمعروف، وتنهاهم عن المنكر، وتغيّر رسومهم الفاسدة، كان ذلك موقوفاً على زوال هاتين الدولتين، ..فإن حالهما يسري في جميع الأقاليم الصالحة، فقضى الله بزوال دولتيهما، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده.

وكما قال بعض مؤرخيهم: أن كل شيء في غضون القرن السابع الميلادي كان يتفتت بلا رحمة، مقداراً فمقدار، وخسرت بيزنطه إيمانها العتيد بنصرها، وصار دينها شكلياً طقسياً بالتدريج، إذ يتجه نحو الشعائر الخرافية، وهي تعيش يوماً فيوما متصدعة تحت ماديتها.

فهذا الانحطاط إنما هو نتيجة الفترة من الرسل وانقطاع الوحي عن الأرض كما قال تعالى: "قَد جاءَكُم رَسولُنا يُبَيِّنُ لَكُم عَلى فَترَةٍ مِنَ الرُّسُلِ"، فهي من القرون الأسوأ في تاريخ البشرية، وفيها وقعت كثير من المذابح الجماعية في فلسطين، وبقية الشام والعراق واليمن، وبلاد ما وراء النهرين.، وشهدت تهجيراً قسرياً للمدن المهزومة، وعلت الوثنيات، وتبدل دين المسيح، وانتشرت الأوثان في مكة وسائر الجزيرة، وغير دين إبراهيم، فهي مرحلة تمثل نموذجاً لمراحل التاريخ التي تنقطع عن آثار النبوة، وتتهيأ الأرض لسنّة التجديد والدورة المستأنفة للتاريخ.

كل ذلك لم يحُل دونه العلو الحضاري في بعده المادي المدني، الذي هو كذلك سمة مصاحبة لمرحلة السقوط، فلا تحول دونه عادة، ولذا صدق استقراء من قال إن كل نبي لم يبعث في قومه إلا وهم في أوج حضارتهم وتفوقهم المادي، وكذلك المرحلة التاريخية ل"غُلِبَتِ الرّومُ"، فقد كان في فارس والروم واليمن صناعات وتجارة وحضارة وبنيان لم تمنع التفكك، لأنها أثر من آثار الطغيان، وعنوان على استعراض القوة، وهكذا كل حضارة لا يغلفها الإيمان، ولا يقودها نهج النبوة على العدل والإحسان.

وتأكيداً لذلك يفيد الخبر التاريخي أن فارس والروم اقتتلت ٧٠٠ عام بأكثر من ١٠٠٠ معركة لم تحسم أي منهما النصر على الأخرى، ثم جاء خالد بن الوليد بحفاة عراة يؤمنون بالله حق الإيمان فقضى على كليهما في ٤ أعوام، هزم فارس في ١٥ معركة، وروما في ٩ معارك، فاتحدت الإمبراطوريتان بمعركة الفراض عام ١٢هجري ب٢٠٠ ألف فهزمهما ب ١٥ ألف، ولم تتجاوز سنوات حسم المعارك مع مملكتي فارس والروم العقدين من الزمان.

ولذلك أحسن من قال إن مدلول الفتح في قوله تعالى: "إِنّا فَتَحنا لَكَ فَتحًا مُبينًا" يمتد ليشير إلى تغير في صيغ التاريخ يسّر لرسالة الإسلام التغلب على العقبات والوصول إلى قلوب الناس وعقولهم، فمن دلالاته التمهيد لانفتاح القلب والعقل على حقيقة الإسلام، ليكون أمر الله الغالب مآلاً للسنن ومستقراً لها "وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمرِهِ وَلكِنَّ أَكثَرَ النّاسِ لا يَعلَمونَ".

إياس1 أعجبهم العدد
مشاركة
نشرة فؤاد العمري البريدية

نشرة فؤاد العمري البريدية

مدونة جعلتها مصبّاً لأوشال أفكاري وقراءاتي المنتظمة في شؤون الاجتماع والثقافة وما يتصل بها

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة فؤاد العمري البريدية