مراجعات لكتاب التقشف تاريخ فكرة خطرة |
23 يونيو 2025 • بواسطة فؤاد العمري • #العدد 4 • عرض في المتصفح |
|
من عنوان الكتاب يتضح موقف ومسار الكاتب الاقتصادي الإسكتلندي مارك بليث في أطروحته التي تعتبر "ضد تقشفيه"، فهو يبني المحاججة للإجابة على سؤال: "لماذا يعد التقشف فكرة خطرة !؟"، في كتابه الصادر عام 2013، وترجم إلى العربية ضمن إصدارات سلسلة عالم المعرفة. |
![]() |
فكرة الكتاب المركزية أن الأزمات المالية الكبرى التي تحيط بالدول ناتجة في الأساس عن سوء إدارة مالية من قبل الأجهزة الحكومية والأداء المصرفي، ولكن سياسة التقشف تطالب الكل بترشيد إنفاقه من دون التفات إلى أن معظم أفراد المجتمع لم يكن لهم أي دور حقيقي في إحداث الأزمة، وأن التقشف -الذي يراه حلاً فاشلاً للمشكلات الاقتصادية - هو وسيلة أنتجتها واستخدمتها الإيديولوجيات الاقتصادية الرأسمالية لتمكين الاستثمار الحر ورجال الأعمال من توسيع أنشطتهم وتعظيم مصالحهم. |
ما التقشف ؟.. يعرفه بأنه مجموعة من السياسات التي تسعى إلى تخفيض العجز في الموازنات الحكومية من خلال تقليص الإنفاق العام (الحكومي) أو جمع عائدات ضريبية أكثر أو مزيج من الأمرين بهدف استرجاع التنافسية. |
يرى بليث أن مؤيدي التقشف يميلون إلى نسيان “أن على شخص ما أن ينفق ليتمكن شخص آخر من الادخار، فلو أن كل الدول أو كل الشركات في سوق ما قررت تخفيض الأجور للحفاظ على تنافسية أسعار منتجاتها لن تجد مستهلكين مستعدين للإنفاق على تلك السلع والخدمات. |
فأفكار مؤيدو التقشف تقع دائما في “مفارقة الادخار” التي وصفت بمقولة: إن ادخرنا جميعا معا يختفي الاستهلاك الحافز للاستثمار. |
إذاً فموقف المؤلف واضح من البداية: أن سياسات التقشف هي في أغلبية الأحيان الإجراء الخاطئ ' لأنها توجد النتائج نفسها التي تحاول تجنبها، فهو يقول إن فكرة التقشف باختصار فكرة خطرة لثلاثة أسباب: |
١- هي غير ناجحة عملياً. |
٢- وهي تعتمد على تسديد الفقراء ثمن أخطاء الأغنياء. |
٣- وتقوم على افتراض غياب "مغالطة التركيب" رغم حضورها الشديد في العالم الحديث، ومغالطة التركيب تعني أنه لا يمكن أن يتقشف الجميع في الوقت نفسه، فهذا لا يحقق سوى تقليص اقتصادي للجميع. |
ويشرح كيف زُعزعت اقتصادات منطقة اليورو حينما طبقت رزماً تقشفية قاسية بعد الأزمة المالية 2008، وتوزعت النتائج السلبية على دولها من: الدين المنتفخ للقطاع العام ' وأخرى للقطاع الخاص ' وعدم السيولة في أخرى ' والمصارف الفاقدة للملاءة المالية.. |
وكان حصاد الجميع تقلص الاقتصادات ' وزيادة أعباء الديون بدلاً من أن تصغر.. |
ويقول: لقد جلب إلينا سياسات طبقية ' وأعمال شغب وعدم استقرار سياسي ' وديوناً أكثر وليس أقل ' واغتيالات ' وحروباً ' ولم ينجز مرة واحدة قط ما وعد به. |
وعلى المستوى الفردي ينتج عن الانكماش -وهو المطلوب من التقشف- ينتج عنه أثراً أخبث: وهو أن أي خطوة يتخذها أي شخص في اتجاه الحماية الذاتية (مثل قبول تخفيض الراتب لقاء البقاء في العمل) تكون المحصلة تخفيض الاستهلاك من قبل ذلك الشخص وانخفاض الطلب بالنسبة لعموم الأفراد. |
لماذا علينا جميعا أن نتقشف! |
يشرح بليث في هذا الجزء كيف أن الأزمة المالية في العام 2008 هي أزمة مصارف في الأساس رأت الحكومة الأمريكية أنها -أي المصارف- أكبر من أن تترك لتنهار.. وفي نهاية الأمر تحملت الدول خسائر الأزمة وليست المصارف بعد أن دعمتها الحكومات.. وليطالب المواطن في النهاية بتحمل سياسات التقشف تغطية لخسائر مصرفيين لم يضاروا نتيجة خطئهم. |
إشارة المؤلف إلى حماية الحكومة الأمريكية للمصارف لا تنفك عن أصل الظاهرة الأعم في عصر حرية عمل الرأسمالية الدولية كما أوضحت نورينا هيرتس في كتاب "السيطرة الصامتة"، حيث صارت الاهتمامات التجارية والاقتصادية تحل محل جميع الاهتمامات الوطنية الأخرى، لقد أصبح علم الاقتصاد هو السياسة الجديدة، وصارت التجارة هي المسيطرة، وأعادت الحكومات تحديد دورها من دور المشرع إلى دور الحكم، ومن دور الحارس إلى دور نصير الشركة. |
وعندما تقيم الحكومات التجارة والعقوبات وحقوق الإنسان على أسس اقتصادية خالصة بدلاً من أن تقيمها على أسس أخلاقية فإنها تتنكر لأماني الكثير من مواطنيها، وتنحصر الفكرة فيما تتطلبه التجارة أو السوق بدلاً من الفكرة التقليدية التي تحصره فيما يطلبه الناس. |
ويستمر بليث في عرض وجهة نظره بخصوص "الإنفاق المسرف" بحسب تعبيره، فهو يرى أن الحكومة عندما تقوم بفرض التقشف، فإن هناك قطاعاً واسعاً من الناس القابعين في الطرف الأعلى لتوزيع المدخلات المالية، لن يتأثروا بشكل كبير ولن يكونوا مطالبين بشد أحزمتهم، بينما سيقوم بهذا حوالي 40% من القابعين في الفئة الدنيا من توزيع الدخول، لأن هؤلاء هم الذين يعتمدون فعلياً على الخدمات الحكومية التي ستطرأ على سياستها تغيرات جذرية عقب فرض الدولة للتقشف. |
لم يعطِ المؤلف مساحة كافية للنقد النظري لسياسة التقشف ولا للبدائل ، فخيار التقشف الذي تتخذه السياسات الاقتصادية لتلك الدول بُني على أولوية بحاجة لإعادة النظر بحسب الاقتصادي الألماني هورست أفهيلد وهي : أن نمو الناتج القومي لا يتطابق مع نمو الرفاهية ، فهو يشير إلى أنه لا غنى للدول عن تركيز الجهد على نمو صافي الدخول الحقيقية التي يتقاضاها العاملون بأجر وليس نمو الناتج القومي ، فيجب أن يكون متوسط صافي الدخول الحقيقية التي يتقاضاها جميع العاملين والعاطلين الراغبين في العمل هو الهدف الذي تركز عليه السياسة الاقتصادية والمعيار الذي نقيس من خلاله مستوى الرفاهية المتحققة فعلاً . |
ما أُشيرَ له هنا هو ما يوصف بالتجربة الآسيوية التي تُعدّ نموذج نجاح تنموي تقوم على ضرورة تدخل الدولة لإنجاح عملية التصنيع المتأخر، ويمكن استخلاص أربعة دروس من هذه التجربة: |
1-أن الانفتاح على السوق الدولية ينبغي أن يكون استراتيجياً، بمعنى أن يحصل تدريجياً، وأن تكون قد سبقته حيازة القدرة التنافسية التي تخول الذهاب إلى الأسواق الدولية. |
2-أنه لا يمكن الاقتصار على سياسات التثبيت الاقتصادي، وهي سياسات تتوخى ضبط التضخم كأولوية من خلال ضبط الإنفاق العام، بل إن المطلوب هو سياسة تهدف إلى بناء اقتصاد منتج. |
3-أن محرك النمو ينبغي أن يكون القطاع الخاص وليس القطاع العام، وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا بتولي الدولة مسؤولية حفز الاستثمار، بل إن تدخل الدولة هو شرط نجاح القطاع الخاص في تحقيق عملية "التصنيع المتأخر". |
4-لم يضع موضع التطبيق سياسات توزيع للدخل قوامها التحويلات للعاملين بواسطة دعم الاستهلاك، بل من خلال جعل نسبة كبيرة من المواطنين قادرة على المشاركة في ملكية المؤسسات الإنتاجية. |
الليبرالية الجديدة.. إعادة إحياء التقشف |
يبين كيف دفعت هذه المدرسة لسياسة التقشف المالية، وذلك ضمن توافق واشنطن عام 1989 الذي قُرر فيه قائمة من 10 سياسات هي الانضباط في المالية العامة، وإعادة ترتيب أولويات الإنفاق العام، والإصلاح الضريبي، وتحرير أسعار الفائدة، والحفاظ على سعر صرف تنافسي، وتحرير التجارة، والاستثمار الأجنبي المباشر، والخصخصة، وإلغاء التنظيمات. |
هذه السياسات لم تثبت تجربتها في البلدان النامية على مدى العقود الثلاثة التالية سوى فشلها ـكما قال بعض الخبراءـ فهي مناقضة لتجربة البلدان الصناعية التاريخية، وأثبت هذا الفشل ضرورة الخروج من النقاش العقيم حول إزاحة الدولة كعائق في الطريق، وأن مقاربة الإصلاح القائمة على تحكم القطاع الخاص أو السوق بوتيرة النمو ليست كافية ولا ناجعة. |
لقد غدت قواعد اتفاق واشنطن القاسية بمنزلة الديانة التي تعتنقها الليبرالية المحدثة، فهي لا تراعي خصوصية البلدان التي تقدم لها المشورة أبداً، إذ ليس في جعبتها سوى مطالبة هذه البلدان بضرورة تقييد الإنفاق الحكومي، وتقليص القيود على التجارة الخارجية.. أي ما أطلق عليه ستيغليس مصطلح "سياسة الببغاء". |
وكانت هي نفس السياسات التي تبنتها مؤسسة صندوق النقد الدولي التي فقدت دورها الذي تأسست لأجله ... لتتحول إلى تقديم مراقبة صارمة لسياسات الدول الأعضاء، لزيادة الشفافية العالمية في العالم المتقدم؛ أما بالنسبة لدول العالم الثالث فقد أصبح الصندوق يقوم بدور شرطة مالية تجبر الدول النامية علي ما سمي برامج التعديل الهيكلي لتتحول سياسات النيوليبرالية التقشفية إلى سياسة عالمية أغرقت العالم. |
كان هناك حاجة لأن يعطي المؤلف عناية أكبر بمسؤولية النيوليبرالية عن إعادة إحياء التقشف وجعله جزءا من منظومتها الاقتصادية حيث إن تقديم الحكومات معونات اجتماعية للشركات سيؤدي لخسارة المواطنين العاديين، فالمال الذي ينفق على الشركات هو المال الذي يغدو غير متوافر للخدمات العامة، وغالباً لا تترجم الوظائف الموعودة وتدفقات الاستثمار إلى دافع ملموس، وإذا ما توفرت يمكن أن تتلاشى بسرعة. |
ويدعم الاقتصادي الألماني أفهيلد هذه الحجة فهو يرى أن السوق العالمية أدنى نفعاً بالنسبة إلى سوق العمل الوطنية؛ فحتى في الدول المنضوية تحت راية "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية"، ترتفع البطالة بنحو موازن لنمو التجارة العالمية، فالتجارة الحرة تنمو بمنأى عن سوق العمل، فالعمل يشكل عنصراً من عناصر تكاليف الإنتاج، وبالتالي لا بد من خفض كلفته إلى أدنى مستوى ممكن، والتجارة الحرة هي التي تتولى خفض تكاليف الإنتاج لأنه ببساطة أحد مسوغات تحرير التجارة العالمية. |
يتساءل بليث في النهاية هل إنقاذ البنوك كان ضرورة حتمية؟ هل كانت هناك بدائل أخرى؟ |
يرى بليث أنه كان من الخطأ إنقاذ نظام مصرفي يشهد نهايته الآن، فالنمو في جانب التجزئة التي تعتمد على الاقتصاد الحقيقي يفوق النمو في جانب الصيرفة الاستثمارية، كما أن البنوك في كل مكان حاليا تخفض الرفع المالي مما يعني تخفيض قدراتهم علي الإقراض. |
كما يستعرض بليث أيسلندا وأيرلندا كدولتين إحداهما تركت المصارف لتنهار أما الثانية فدعمتها، وكيف أن أيسلندا التي تركت بنوكها تنهار لم تضار ضررا جسيماً كإيرلندا. |
التعليقات