ملخص لكتاب: حياة تالفة |
23 يونيو 2025 • بواسطة فؤاد العمري • #العدد 2 • عرض في المتصفح |
أزمة النفس الحديثة
|
|
تأليف : تود سلون |
ترجمة : د.عبدالله بن سعيد الشهري |
![]() |
مجالين من العيش يبدو أنهما لا يُستشكلان إلا عبر طرق تعتبر حديثة: |
الأول: متصل بعملية اكتساب المعاش، بتأمين البقاء اقتصادياً، بالصعود مهنياً، وإنجاز المشاريع الخاصة. |
الثاني: عالم العلاقات مع "الآخرين المهمّين"، بما فيها روابط الأسرة، وعلاقات العمل، والصداقات، والمواقف الغرامية. |
الأول يجمع الكاتب وصفه في " المشاريع الشخصية"، والثاني يندرج في "العلاقات الاجتماعية "؛ وتحت تأثير الحداثة يتمايز فضاءا الحياة هذان عن بعضهما على نحو مدهش، وقضايا هذين المجالين لا تصبح مؤرقة لمعظم الناس إلا في سياق الحداثة. |
إن سؤال المعنى يفسر تحول الملايين حين يلتفتون إلى الممارسات الروحية أو الأيدلوجيات الدينية للحصول على جواب. إنهم يعثرون فيها على رؤى كونية تؤويهم إلى مستوى متعال من نوع ما، وتزودهم بمعنى عن غاية الحياة. |
تبرز مشكلة المغزى بشكل مباشر في مستوى الحياة اليومي أكثر من بروزها في مستوى الرؤى الكونية. فالأنشطة تأخذ في الرتابة، وهوايات المرء المفضلة تصبح قديمة. |
يضيق المرء ذرعاً بأنماط التفاعل المعتادة مع الأصدقاء عندئذ يتساءل المرء تلقائياً ما فائدة هذا كله؟ وإلى أين ينتهي بي؟ |
وفي الجملة؛ سواء علم الناس بذلك أم لم يعلموا، مدار المعضلة الحديثة على قضية المعنى . |
تعتبر الحداثة السياق المرجعي، والتي تشتمل على سمات مثل سبل العيش الحضرية، الانكشاف على وسائل الإعلام الجماهيري، الاحتكاك بالأعمال والمؤسسات البيروقراطية، الصدام بين القيم. |
إن شكل التطور الذي طرحة أنصار التحديث هو في الواقع استعمار جديد، لبوس آخر للاستغلال الرأسمالي الأمريكي الأوروبي في دول المحيط. |
إن التحديث يعني أن الرأسمالية يجب أن تخترق أخيراً كل فضاء في المجتمع. |
لقد أصبح تثبيت القيم البرجوازية (السوق، الربح، والمؤسسة) هوالأيديولوجيا المهيمنة، وبات التغني – أو الصدع – بمحامدها شغل الإعلام كله. |
الوقع النفسي للتحديث |
ومن أشد المسائل البحثية صعوبة أمام عالم الاجتماع هو الإجابة على سؤال: كيف أثرت الحداثة في الأبنية الأساسية للشخصية البشرية. |
وفي محاولة علماء الاجتماع تفسير الواقع النفسي الذي يتركه التحديث في الوعي؛ فإنهم يشيرون إلى التحديث بأنه: العوامل المؤسسية المرافقة لنمو اقتصادي مدفوع بالتقنية أو نمو وانتشار جملة من المؤسسات المتجذرة في تحول الاقتصاد بفعل التقنية. |
أما "الوعي" فيشير إلى التجارب والصيغ الشخصية للفهم في الحياة اليومية. |
إن نمط الإدراك اللازم للعمل الصناعي يفشو في المجتمع عبر وسائط فرعية مثل المدرسة والإعلام الموجّه. |
استعمار عالم الحياة |
النظام وعالم الحياة |
يعرض الكاتب لفكرة يورغن هايبرماس عن استعمار النظام لعالم الحياة: حيث تتألف المجتمعات من مؤسسات وأنشطة تؤدي جملة من الوظائف الجوهرية، ويمكن تقسيم هذه الوظائف إلى فئتين: |
1)النظام. 2) عالم الحياة. |
- أما النظام؛ فيشير إلى المعارف والأنشطة المتعلقة بإعادة إنتاج المجتمع إنتاجاً مادياً، حيث يصاحب كل ممارسة من هذه الممارسات معلومات أو معارف تخبر الفاعلين بواقع الحال في العالم الموضوعي، وبكيفية تدبير شؤونه. |
- وأما عالم الحياة؛ فيشير إلى الأساس الاجتماعي الثقافي لعملية التواصل، فعالم الحياة بصفته مستودعاً للمعرفة الجمعية الثقافية، هو الذي يمكّن من إعادة إنتاج المجتمع ثقافياً ومؤسسياً ونفسياً. |
ثم يشرح أنه حين يتقدم التحديث تتقلص مساهمة عالم الحياة في التطور المجتمعي، فهو ينكمش عندما ينفصل شيئاً فشيئاً عن عمليات تشغيل النظام، فالمنطق الداخلي للنظام يندفع للتوسع والتطور استقلالاً عن هموم عالم الحياة. |
بعبارة أخرى، أفكار الناس العميقة عما ينبغي أن تكون عليه الحياة الطيبة تتباعد أكثر فأكثر عن القرارات المأخوذة لتحسين الإنتاج الصناعي ورعاية النمو الاقتصادي. |
كما أن الحداثة تتأسس بعلميات العقلنة التي تتكشف مع سيطرة متطلبات النظام على القيم المغروسة في عالم الحياة. |
تشير العقلنة إلى التنسيق المنظم للفعل البشري لكي يحرز المزيد من الغاية التي ينشدها، وتظهر العقلنة حين تنتقد الممارسات والرؤى الكونية التقليدية، وتزاح وتراجع في ضوء القيم المرتبطة بالتطور العلمي والتقني - قيم نحو الفاعلية، والإنتاجية، والموضوعية، والحيادية. |
وحين يُفصَل النظام عن عالم الحياة، فإن عالم الحياة يتفكك إلى ثلاث مكونات بنيوية بعضها متصل ببعض: |
1/ الثقافة (أنظمة المعرفة والمعنى). |
2/ المجتمع (قواعد التفاعل المجتمعي المنظم). |
3/ والشخصية (الهوية). |
إن مارد التحديث يفلت من قمقمة عند تمايز أبنية عالم الحياة وخضوعها للعقلنة، فتعزل الشخصية عن الثقافة والمجتمع، وتعزل الثقافة عن المجتمع والشخصية، ويعزل المجتمع بنفس المنوال. |
تتولد من هذه المتايزات درجات جديدة ومهمة من الحرية لا تلبث أن تتجذر مع مزيد من التمايز والمراجعة النقدية. |
فحين يتباعد فضاءا الثقافة والمجتمع فإن الرؤى الكونية الدينية وغيرها من الرؤى تفقد سلطتها المباشرة على المؤسسات الاجتماعية. |
وحالماً يعترض التطور عمليات عالم الحياة المتصلة بإعادة إنتاج المجتمع أو الثقافة أو الشخصية فإنه قد يبعثر مصدراً أو أكثر من مصادر المعنى، والهوية، والتضامن الاجتماعي، ثم إن هذه "البعثرة" تستحيل في شعور صاحبها إلى "أزمة". |
يؤول انفكاك النظام عن عالم الحياة إلى سيطرة إملاءات النظام على المكونات المتنوعة لعالم الحياة، فيعاد تنظيمها لتلائم متطلبات نظام الإنتاج ومؤسساته. |
يمكن ملاحظة هذا في العواقب المختلفة للتحديث، تتفكك الأسر الممتدة المثقلة لكي تمد سوق العمل الحضري الصناعي بوحدات آدمية متحركة وفعالة، أما التنوع في إعادة الإنتاج الثقافي فيجري ترشيده عبر تعليم الحشود المدار من قبل الدولة، فلا يصفو عندئذ إلا الأساسيات: الكتابة، والحساب، وإحساس بالمواطنة وآليات السوق؛ مثل الدعايات ونحوها يجري تطويرها لتشكل المجتمع نفسه، ولتنتج مجموعات سكانية تهتم بالعمل من أجل استهلاك المنتجات المعروضة من النظام. |
ينبه هابرماس على أن نموذجه للعقلانية التواصلية يشتمل ضمناً على ثلاثة أنماط موقفية تجاه العالم، إنها تقسم العالم إلى ثلاثة عوالم فرعية: |
1] العالم الموضوعي للأشياء. |
2] العالم الاجتماعي للعلاقات البينية الشخصية. |
3] العالم الذاتي. |
وإن كانت "صحة" المجتمع البشري وإعادة إنتاجه معتمدين على نجاح نقل عالم الحياة إلى الأجيال المتعاقبة، فإن ذلك العالم يتشوه من خلال الأوجه الرمزية التي طبعها النظام، والتي اعتاد البشر الحديثون الشكاية منها: اللامعنى، تزعزع الهويات الجمعية، الحيرة، فقدان الوجهة، تناقص شرعية السلطات، الاغتراب والأمراض ( الباثولوجيات) النفسية.. |
إن هابرماس يجادل فعلاً بأن هناك شيئاً في طبيعة التحديث الرأسمالي من شأنه أن يبعثر أنشطة التواصل الرمزي على نحو متزايد، ويزيحها بواسطة الأشكال العقلانية المعرفية الأداتية، وتطبيقاتها الإدارية. |
ثم بين كيف تأثر كل فضاء من فضاءات عالم الحياة (المجتمع، الثقافة، الشخصية) بعملية التحديث؛ ففي فضاء المجتمع، ساهمت العقلانية الغربية في تمايز وتطور السوق الاقتصادي الرأسمالي والدولة البيروقراطية الحديثة، ويحكم القانون الرسمي التنظيم الداخلي لهذه القطاعات المجتمعية وتفاعل بعضها مع بعض. |
لقد انتقلت السلطة إلى الذين يحققون أهدافهم عبر تطبيق العقلانية المعرفية الأداتية، لما وقع هذا، تحرر فضاء الأخلاق والقانون من التحكم الديني المباشر، وأصبحت القواعد القانونية خاضعة للمناقشة والمداولة من قبل فاعلين آخرين. |
إن استعمار عالم الحياة يعني أن الأفراد صاروا أبعد عن تهيئة أنفسهم بنحو القيم الذاتية أو القيم العليا، لقد أصبحت قراراتهم حول طرق التصرف خاضعة لإملاءات البيئة الموجهة بالإدارة. |
والنتيجة؛ أن الدولة والسوق يبرزان الواقع الحاضر أو القريب على أنه المثال المنشود. |
ومن ثم يفضي التحديث الرأسمالي المتقدم إلى انحطاط الذات الفاعلة المستقلة. |
نعم يمتلك الأفراد الحديثون خيارات موضوعية أكثر، والمزيد من البدائل المحسوسة، غير أن الأطر التي يمارسون داخلها عملية الاختيار مصنوعة هي الأخرى لتتوافق إلى حد كبير مع إملاءات السوق والدولة لإعادة إنتاج المجتمع. |
تشكّل النفس |
إن تكاثر نظريات الشخصية خلال القرن العشرين هو في حد ذاته أثر من آثار الحداثة. |
نشأ الاهتمام بالرؤى الكبرى التي تناولت طبيعة الفرد –كتلك التي طورها فرويد، يونغ، ماسلو، فروم، روجرز، وهورني– نتيجة تنحية العلمانية للرؤى اللاهوتية عن النفس. |
- يمكن اعتبار النظريات الحديثة حول الشخصية محاولات للإجابة عن سؤال الغاية من الحياة ومقاصد التطور البشري. |
- أيضاً يعزي الاهتمام بنظريات الشخصية إلى سؤال التفرد الذاتي الذي فاقمته حياة مجهولة بين الحشود. |
- أخيراً، لهموم الاشتغال بالشخصية اتصال بسؤال أنظمة التوجيه الإداري التي ارتأت ضرورة تطوير استجابات بيروقرواطية أنجع للتعامل مع الفروقات الفردية. |
يشمل مفهوم النفس: الخبرات الذهنية والعاطفية الواعية وغير الواعية، فهو بهذا الاعتبار يحيط بكل أوجه العمليات المستمرة التي تؤلف بين الأفكار، والانفعالات، والذكريات، والتصورات، والقيم، والصور، والخطط ـ باختصار؛ كل شيء جرت العادة بحشده تحت مقولة "النفس". |
تتطور تدابير النفس المسؤولة عن تحديد نمط الشخصية بفعل الأنساق البينشخصية؛ أي الحاصلة بين شخصيات متعددة، فيما يكون تحديد الصفات الإيجابية/السلبية الأولية مسألة ثقافية تنجز عبر مؤسسات التنشئة الاجتماعية في مرحلة الطفولة. |
وعليه؛ فتجارب المعنى وقدرات تمكين العلاقات تعتمد كلها على عمليات معقدة للهيكلة النفسية في بواكير الطفولة. |
والتساؤل الآن عن أثر التحديث الرأسمالي في تشكل النفس. |
تسلط الرغبة |
الكبت في المجتمع المترف |
في كتابه "الحضارة والرغبة"، جادل هربرت ماركوزه حول كيفية تمثيل الكبت استنباطا للتسلط الممارس من قبل السادة الخارجيين. |
تاريخياً، لم يصبح الكبت ضرورياً إلا في مرحله معينة من مراحل التطور المجتمعي ـ ذاك المتصل بالتحضر والتمدن والتحديث والتصنيع حين أصبح الإكراه الخارجي والرقابة البوليسية المفرطة للسلوك البشري غير مجديين. |
يتجلى تشاؤم ماركوزه في كتابة "الانسان ذو البعد الواحد" بأن الجماعات التي كانت مهيأة تاريخياً لإحداث التغيير الاجتماعي الكبير، من الطبقات العاملة قد أصبحت بفعل الرفاه المادي مندمجة في النظام الرأسمالي إلى الحد الذي أفقدهم الإحساس بالحاجة إلى التغيير. |
إن وعيهم يعكس واقع النظام الذي أنتجهم كأفراد، فقد أصبح غرضهم من الحياة إرضاء الذات بالاستهلاك المادي. |
لم يكن هناك سوى "بعد واحد" فيه يحيون ويعملون: مجتمع استهلاكي، مدار بيروقراطياً، ويسند نظاما صناعيا مركبا ويستند إليه. |
إشارة ماركوزه إلى "أحادية البعد" على مستوى الثقافة والمجتمع والشخصية يمكن فهمها في الخطاب الهابرماسي باعتبارها ناجمة عن استعمار عالم الحياة من قبل العقلانية المعرفية الأداتية. |
الأسرة باعتبارها فاعلاً مؤسسيا |
يسترسل الكاتب مع تحليل ماركوزه لقصور الاعتناء بعمليات التنشئة الاجتماعية التي تنتج أنماط الشخصية، إذ يتفق مع إيريك فروم –وبقية مدرسة فرانكفورت- في كونهم يعزون أهمية كبرى لدور الأسرة في التنشئة الاجتماعية باعتبارها وكيلاً لها، وعبر تأثيرها في بنية النفس والتطور المبكر للهوية. |
ولكن الأسرة الجديدة؛ والمعروفة باسم الأسرة النووية، قد أزاحت أنظمة الأسرة بمختلف أشكالها، وعززت نمو شخصية ذاتية الاعتماد ومتوجهة للمستقبل، شخصية تلائم ثقافة النظام الرأسمالي الريادي. |
ولأجل مراكمة رأس المال واستبقاء أنفسها للإنتاج عمدت الأسر النووية إلى تطوير طقوس اجتماعية جديدة لضبط الذات، وإرجاء الإشباع، والتضحية المادية. |
فانحصرت تلبية الحاجات النفسية والجسدية داخل المنزل وتحت قواعد تهذيبية صارمة، وضمن حدود لا تضعف إنتاجية المرء أكثر مما ينبغي. |
كما تحولت العناية بالطفل إلى فرصة واعدة للسوق، رجاء أن يصبح منتجاً. |
وفي المحصلة؛ مثلت الأسرة الصف الخلفي التالي الذي يجب استعماره، وإخضاعه للعقلانية الأداتية تحقيقاً لمصلحة مراكمة رأس المال. |
التشكلات الأيديولوجية وطابعها المتعالي |
يناقش هنا تصور تمزقات عالم الحياة في فضاء تشكل النفس على أنها تمزقات ناتجة عن التحديث. |
حيث تسلك الإيدلوجيا طرقاً متنوعة لإخضاع الأفراد للعمليات المسؤولة عن إنتاج وإعادة إنتاج النظام الاجتماعي المعرقل لتطورهم. |
ويتطلب الإيضاح تقرير التعريفات المهمة: |
فالأيديولوجيا تعني نظاماً من الممارسات والتمثيلات من شأنه أن ينتج ويعيد إنتاج العلاقات الاجتماعية للسيطرة ويبقى عليها. |
أما البينذاتية فهي عمليات التواصل الرمزي التي يتمكن المشاركون بموجبها من التعبير المكشوف عن مصالحهم ورغباتهم ومعضلاتهم وشكوكهم بالتظافر مع فهم أكبر لوظيفة النظام الاجتماعي في علاقته بهذه المصالح. |
وفي سياق الرأسمالية المتقدمة، تؤدي الأيديولوجيا وظيفتها على مستوى الفرد عبر أشكال متنوعة من الانشطار بين المعرفة الفكرية، واللغة، وإدراك الواقع الاجتماعي، والخبرة العاطفية. |
أما في الفعل والفهم الذاتي المؤطران بالأيديولوجيا، فسيجد المرء الأعراض التالية: |
- تصرفات تلقائية التي لا يتوسطها تفكر. |
- تواصل مسدود حول الحاجات المستشعرة. |
- عجز عن التعبير عن الغضب تجاه الاستغلال. |
- استسلام للمعاناة الممكن تفاديها. |
- تشظي الوعي. |
في هذه الأعراض يكون المرء واعيا وعياً غامضاً بأن الأمور ليست على ما يرام وأنه يفضل البحث عن مسلك آخر، ولكنه عاجز عن السيطرة على التشكل الأيديولوجي. |
كل ذلك يدفع الناس إلى معاقرة المسكرات أو تعاطي المخدرات، أو يلجئهم إلى الاستسلام قبل أن يبدأوا، والإذعان، واجتناب المواجهة، والقبول بالجور، وتجاهل سأمهم، والبقاء بمعزل، والتنازل عن حرياتهم. |
تدمير المعنى |
نستطيع الآن أن ندرس كيف يؤدي تمزق العمليات الرمزية لعالم الحياة إلى العلل النفسية للـأزمنة الحديثة. |
عند تحليل التحديث الرأسمالي، من المغري رسم تناظر بين استحواذ العقلانية المعرفية الأداتية وبين انتزاع الترميز المدعوم اجتماعياً وثقافياً. |
ففي السياقات التي تكافأ فيها المواقف المشيئة للنفس، بالمكانة والسلطة والمال، ما يجري تدعيمه هو انتزاع الترميز بدلاً عن التكامل. |
فالنجاح في النظام سيتبع المرء الفاتر، المجرد من العواطف، الغارق في المهام، العازم على كبت الاعتراضات، والسطحي في التمثيل والتأثير الإداري "الملائم". |
وآلت إلى نوع الاضطرابات التي أصبحت متزايدة في المجتمعات الصناعية المتقدمة، والتي تنتمي إكلينيكياً إلى عالم الاضطرابات الشخصية، والنرجسية، والاكتئاب. |
يتسم كل اضطراب بالفشل في تحقيق أو إدامة العمليات الرمزية العليا التي تدعم المقدرة على التفكر الذاتي المستقل، والسيطرة على الانفعالات، والتواصل البينذاتي. |
وهكذا تمثل الاضطرابات قصوراً في تمييز النفس عن الآخر، وعجزاً عن التفكر الذاتي المستقل، ومشكلات حادة في تحقيق العشرة، وسلوكاً اندفاعياً أو مدمراً للذات وصعوبة في الرضا بالسعي الشخصي. |
في الطور الأخير من هذا البحث، نستخلص منظوراً فريداً وجذرياً حول التحديث الرأسمالي وأثره في العلميات الرمزية. |
وذلك بالاستناد إلى المنظور يقترحه المنظران الاجتماعيان الفرنسيان جيل دولوز وفليكس غاتاري. |
حيث تنزع الرأسمالية إلى إزاحة العلاقات الثابتة والمقيدة بين الناس والأشياء، وإحلال وحدة تعادلية مجردة تأذن بالتبادل الحر، وتبديل كل شيء جزافاً مقابل أي شيء. |
فبمسعاها الساخر في تجريد العالم الحديث من القداسة، تقوم الرأسمالية بإبادة كل أشكال التحالف والانتساب ما قبل الحداثية، وتحطيم كل القيود الموضوعة على التطور الاقتصادي.. إن الرأسمالية تنشر علاقات السوق في كل مكان، لتنتج فرداً مزوداً بأنا/أنا عليا، إضافة إلى التشظي الاجتماعي والنفسي. |
ومع تقدم التحديث، فإن التقاليد لا تحدد المكانة بقدر ما يحددها منطق السوق والسلطة البيروقراطية. فالمقتدرون على تلبية متطلبات السوق والبنية البيروقراطية سيحظون بالمكانة. |
إن نظام المكانة الخاص بالمجتمع الطبقي الرأسمالي نظام مشكل لأسباب ومنها، أنه يميل إلى إسكات المفتقرين إلى المكانة، ومكافأة المظاهر عوضاً عن الجواهر، وتعزيز الأنماط النرجسية، وتشجيع التنافس على المكانة عوضاً عن الحوار وتكوين التوافق. |
إن قواعد المكانة هي الأخرى تصبح إعلاماً توجيهيهاً منزوع اللغة، إنها تتلقف الأفراد في تنشئتهم الاجتماعية المبكرة، وتقيّد فعلهم التواصلي، وتذكي فيهم توقاناً إلى المال والسلطة، توقاناً قهرياً مطوعاً لخدمة النظام. |
التخلص من الاستعمار |
تنقدح جملة من المقترحات في هذا الصدد. |
سوف يعتمد تخليص عالم الحياة من الاستعمار على تعديلات مبكرة في التنشئة الاجتماعية من شأنها أن تساند تشكل أبنية شخصية تنفي المثالية، وتتسم بقدر كاف من التمايز بين النفس الآخر. |
كذلك يمكن للمرء أن يتوقع إحساساً بالحاجة إلى الموازنة بين الاحتياجات الشخصية والمتطلبات الجماعية والاستعداد للتوجه إلى توافق تعددي يغطي أكبر قدر ممكن من فضاءات الحياة. |
لإيجاد التغييرات المرغوبة؛ فالحاجة إلى رؤى واقعية ممكنة لمجتمعات طوباوية سليمة من الفردانية والاستهلاكية. |
لكسر أغلال العبودية، ينبغي على البالغين الذين ضاقوا ذرعاً بالواقع المرير أن يفكروا في تعاهد الأطفال من أجل تحصين الأحلام البديلة. |
وإن إحدى الاستراتيجيات الواعدة تقتضي الوثوق بالعملية التي تنقل عبرها القيم من جيل متقدم للجيل التالي، لضمان أن الأطفال قد علقوا الرسالة التي مؤداها أن التعددية مرغوبة، وأن التغيير الاجتماعي ضروري. |
يحتاج الأطفال إلى تواصل مستمر مع طيف واسع متنوع من أولياء الأمور والمعلمين والمواطنين والعاملين الذين يعتنون بشرح عوالمهم الخاصة للأطفال عبر عدسة قيمهم الخاصة. |
ينبغي لأولياء الأمور توكيد التعلم بتعريضهم للتجربة والممارسة. |
فتخليص عالم الحياة من الاستعمار يعتمد في معظمه على فك الارتباط بين النشاط الثقافي وتسويق السلع. |
سيتوجب اختراع أشكال ثقافية للمقاومة تفي بمتطلبات وسائط الاتصال الجديد وتدويل رأس المال. |
ولعله أزف الوقت الذي نبتدئ فيه تجربة اجتماعية تنتزع الطفل والبالغ من الترفية الفارغ، والصور المعلبة عن النفس، والمعلومات الزائفة التي يقدمها الإعلام..الخ. |
سيتطلب هذا الإغلاق التلفاز لأطول مدة زمنية ممكنة لنمنح، بدلاً من ذلك، أنفسنا فرصة التأمل فيما نقوم به. |
التعليقات