الموقف التربوي في التعامل مع المخالفين دينياً

23 يونيو 2025 بواسطة فؤاد العمري #العدد 4 عرض في المتصفح

يقود الإعلام وتكنولوجيا المعلومات فرض ثقافة العولمة، بمنظومات قيمية تُعلي ما هو غريزي، وتختزل فيه الوجود الإنساني، ويعزز ذلك خلوّ المضامين الإعلامية من أي قيم توجيهية سامية، واستنادها إلى قيم مادية، لا تأبه لحاجات الإنسان الروحية وهمته في الارتقاء الأخلاقي، وإنما تنخرط في النسق القيمي التجاري والإعلاني، حيث ثقافة الصورة وعالم الرغبة واللذة والإثارة الذي تبشر به.

فنحن لم نكن في يوم من الأيام أكثر انتماءً للعالم مما نحن عليه اليوم، فوسائل الاتصال ومنصاته والعولمة بأدواتها الجبارة ألغت الحدود بين ما نسميه داخل البلاد وخارجها، فالعولمة تعولم الأشياء، وتعولم الأفكار والتطلعات والأذواق والمعايير، بل وتعولم المشكلات وأنماط الانحطاط.

ونتج عن ذلك انتزاع مركزية التربية الدينية والتنشئة الاجتماعية من الأسرة، التي تتآكل منظومتها القيمية، بسبب الاختراق الثقافي بأدوات العولمة التي تعيد تعديل المكانات والأدوار، وتشيع حالة من الاستباحة والتسيب القيمي والسلوكي، بعد تحول البنيات الاجتماعية (الأسرة، والمدرسة، والمسجد، والحي، والإعلام)، وحدوث هوة عميقة بين وظيفتها بالأمس واليوم، وما نشأ عنه من تهاوي السلطة الأبوية للوالدين، فأفسح فراغ السلطة هذا التمثُّل الجانح لفردية الأبناء واستقلاليتهم، والآثار السلبية للمفاهيم المشوّهة للحرية ولتقدير الذات.

ويدخل في ذلك تكريس التبعية والإعجاب بكل ما هو أجنبي، بما في ذلك رموز الفن والتمثيل والرياضة وغيرها، ففي المساحة الواسعة على شاشات الميديا يشاهد أبناءنا رموزاً جعلت منهم هذه الوسائط نجوماً، في مجالات متعددة ضمن اهتمامات وشغف الأطفال والمراهقين، لم يندّ منها حتى الكارتون (الإنمي، والمانجا)، فيحل في وجدان الأبناء طيف واسع من الأبطال الذي يستمد منهم سمات هوية مستعارة، تشكل وعيه ومخيلته للصفات المثالية، ومن ثم يترسب في اللاوعي كل المضامين المنبعثة من سلوك هؤلاء الأبطال النجومي على الشاشة، بدءاً من الخلفية العقائدية التي تدل عليها الرموز والطقوس الوثنية، أو الشعارات الدالة على الأديان المحرفة، أو حتى الانحطاط الأخلاقي والسفول الحيواني الذي لا يستحيون منه.  

كما يأخذ هؤلاء النجوم هالة الأسطورة أمام معجبيهم بحسب كاريزميَّة حضورهم الإعلامي، فتظهر سمة الأسطورة وفق مُتَخيّل الأبناء فيهم بأنهم شخصيات فوق إنسانية، تمامًا كالشعور تجاه البطل الخارق أو (الآلهة). فالنجم يضخ في نفوس متابعيه جزءًا من جوهره البطولي، أي المؤله والمؤسطر، ويحصل على الحب الذي هو أسطورة تأليهية، ويتجه نحوه الجمهور ببعض نزعات العبودية التي تظهر في الاندماج والتماهي التام مع النجم، وما أكثر ما يوصف النجم بـ (معبود الجماهير).

ولا بد أن يتنبه المربون إلى الآثار غير المباشرة التي تنتهي إلى الجانب الاعتقادي والشرعي، ومن ذلك السلّم والأولويات القيمية التي تنبعث من نموذج النجم، والتي تظهر العلمنة تجاه علاقة الدين بالحياة، فمن خلال نموذجه المُعاش تتعزز وظيفة فصم القيم ونبذها، فيتحول الشاب إلى ذرات متناثرة تتحرك بلا هدف ولا غاية، ومن نظام حياة النجم وميوله تنتقل أولوياته للمتابعين المتأثرين، ومن ذلك تقزيم التدين في الوجدان والنشاط اليومي، وإحالته إلى شيء هامشي لا يشغل إلا مكاناً محدوداً وفي أضيق نطاق ممكن، فلا يكون له أي تأثير حقيقي على نواحي الحياة، ومن ثم يستحيل الدين إلى مجرد ممارسة عملية، ومحض عادة، إن لم يكن ضرباً من الروتين.

ويمتد الأثر إلى الحيوانية الأخلاقية، حيث تتحول فضائح الحياة الخاصة للنجوم إلى شيء مسلٍّ، بل إن ما كان معيبًا ومخزيًا مع كثرة العرض يصبح مبتذلًا، ومن ثم تتلاشى حالة النفور الأخلاقي منه، ويصبح مجرد عرض يوميات شخصية خاصة لا يتدخل فيها أي معيار أخلاقي، وتغدو أخص خصوصياتهم وكأنها جزء من رقعة الحياة العامة.

تجاه كل ذلك؛ لا بد أن تكون المعالجة متسمة بالشمول والتكامل، مراعين الربط بين ظروف المشكلة وجذورها وكذلك البيئة الثقافية الحاضنة، والتي قد يكون وضعها في إطار الحل أهم من معالجة الظاهرة ذاتها، في بعدها الاعتقادي والفكري.

فمن المهم أن ندرك مدى ارتباط ضعف شعيرة الولاء والبراء بضعف عبودية الناس لله ومحبتهم له، فهي فرع عن محبة الله وهو الأصل، فلما غلب على الناس التعلق بالشهوات وأشربوا حب الهوى؛ صاروا يوالون ويوادون على حسب أهوائهم وعقولهم المعيشية، فزاحمت تلك المحبوبات عبودية الله تعالى ومحبته.

حيث يستقبل أبناءنا تيار الثقافة الجارف بخضوع ذهني لمعايير وأحكام هذه الثقافات الوافدة، يقابله انتماء بارد لإسلامهم، لا يظهر منه إلا ارتباط عاطفي واهن، ومفرغ من الحقائق الفكرية والروحية الراسخة.

ولذلك فمن الأدوات الوسائلية التي تعد شرطاً مسبقاً لمعالجة الظاهرة هو إعادة الاهتمام بالتنشئة الاجتماعية، فمن خلالها تنقل المجتمعات المعرفة والأعراف والقيم الاجتماعية عبر الأجيال؛ فهي عملية قوية خاصة في المراحل الأولى، عندما يتعلم الأطفال السيطرة على النزوات وإنشاء مفهوم الذات.

فالتنشئة الاجتماعية من أقوى المؤثرات على الإنسان وزمامها بيد الوالدين؛ لأنها أسبقها إلى نفسه، ومن ثمّ فهي أرسخها، فهي ليست إلا رعاية الفطرة في النفس وتعاهدها، فعوامل الخلقة الربانية قد أودعت في ذات الإنسان أساس شخصيته، المتمثلة في أفكاره ونزعاته السامية، فتنمو في الإنسان شخصيته الفطرية بتأثير عوامل التنشئة الاجتماعية، وتبلغ بها درجات راقية، أو تنحرف بها وتمسخها أحيانًا.

وكما يقول علي عزت بيجوفيتش أن كل تنشئة حقيقية هي في جوهرها تنشئة ذاتية، وهدفها ليس تغيير الإنسان فهو ينشأ على أصل الفطرة، وإنما هي تحفز فيه قوى جوانية دافعة من الخبرات لمنع المؤثرات المفسدة لنفسه، وتحدث قرارًا جوانيًّا لصالح الخير، عن طريق المثل الصالح والنصيحة والمشاهدة. فالتنشئة تحدث تأثيرًا لطيفًا لا يمكن قياسه، إنها فاعلية غير مباشرة تدخل القلب، عن طريق الحب والقدوة والتسامح والعقاب، بقصد إحداث نشاط جواني داخل الإنسان.

كما أنه لابد للمربين من الاهتمام بتكوين المفاهيم، والعمل على تعليم الأبناء كيف يصوغون المفاهيم الجيدة بأنفسهم، وقد وجدت هذه المسألة إهمالاً من الوالدين، ربما لأنها تتطلب قدراً من الصبر والإتقان والدقة، ومستوى من التفتح الذهني ورحابة الأفق، فلا بد لذلك من فتح النقاش مع الأبناء وإلقاء الأسئلة عليهم ببراعة، وحسن تلقيها منهم، لإنضاج المفاهيم الأساسية وترسيخها في عقولهم. 

ومن المهم أن يعلم الوالدان أن القاعدة العقدية هي التي تشكل البنية العميقة لبناء التصورات والمفاهيم وتكوين الثقافة، فمن أولويات تنشئتهم التربوية العمل على تمتين هذه القاعدة لتؤسس للبناء الثقافي الصلب، وذلك بسقيه زلال المعارف والمفاهيم المتعلقة بالتصورات والمعتقدات الأساسية منذ الصغر. 

وتأسيساً عليه؛ فالإيمان بالله أول قيمة ينبغي أن يهتم بها أولياء التربية، فهي القاعدة العظمى لتكوين الإطار المرجعي لكل الأخلاق والقيم الأخرى، فيجب ترسيخ الإيمان "الحي"، ليس بوصفه قناعات عقلية فحسب، ولكن بوصفه مشاعر وأحاسيس بمراقبة الله، والخضوع والاستسلام له..، وبذلك يكون مصدراً لابتهاج الروح ومقاومة تيار الشهوات والأفكار الجارف.

 ومع ذلك فلا ينبغي أن تهمل القناعات العقلية بل ترتقي من قناعات باردة إلى بناء الإيمان على قواعد فكرية معمّقة، ولأنه كثيراً ما يتكرر في القرآن الكريم وصفه بأنه بيان لأولي الألباب وللذين يتفكرون، فلا يكفي للتنشئة العقدية الوالدية الاتكال على طاعة ربانية دون تفكير، ولا على حماسة وانتماء عاطفي لا يصمد تجاه الأسئلة المحيرة في هذا العصر، ذلك أن تيار الأفكار المصاحب لسلوك نجوم العصر هادم للإيمان بطبيعة الحالة الثقافية.  

ويتصل به تعميق محركات القلوب إلى الله، لتملأ فراغ قلوب أبنائنا، وحاجتهم إلى الحب والتعلق بأوصاف الكمال، وترتدع عن السبل المخالفة لها، فهي تبعث في وجدان الأبناء روحاً وجمالاً، وتغرس أثرها العميق في نفوسهم، ومن محركات القلوب إلى الله:

- محبة الله تعالى، فالمحبة من أعظم ما يحرك القلوب للاستقامة، فهي أصل كل حركة في الوجود كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فالمحبة والإرادة أصل في وجود البغض والكراهة، لأن المحب لشيء لابد أن يبغض ما يناقضه، فلا يوجد البغض إلا لمحبة ولا يزول البغيض إلا لمحبة.

- المحرك الثاني: الخوف من الله، فيتربى الأبناء وتتغذى قلوبهم على مشاعر الخوف من الله، القائم على تعظيمه وإجلاله، واستحضار عاقبة المرجع إليه.

- المحرك الثالث: الرجاء من الله، الذي يورثه أمله في رحمة الله، وحسن موعوده.

والمرتقى الأكمل في ذلك هو تحول المعتقد إلى واقع حياة يُتمثَل في مختلف مناحي السلوك، فالتوحيد وشهادته ليست مجرد عقيدة ذهنية، بل هي ممارسة ونظام حياة، فحقيقتها أمر يجب فهمه والعيش به، فالاعتقاد الإيماني هو طريقة ينظم الإنسان به حياته كلها.

ومن المسبقات الضرورية بناء تعظيم الله في نفوس الأبناء، من خلال تعريفهم بأسماء الله وصفاته، فعلى قدر المعرفة يكون تعظيم الرب في القلب، كما قال ابن القيم، فأعرف الناس به أشدهم تعظيماً وإجلالاً، وروح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت، فلا بد أن نملأ قلوب أبنائنا بعظمة الله وعظمة شعائره وأوامره، فتجرع قلوبهم حب الله وتعظيمه بالصفات البالغة من غايات الكمال والجلال والشرف والعلو، ما يقطع جميع العلائق والصوارف والآفات.

وعلى وجه التخصيص للجانب العقدي التربوي هنا، فلا مناص من بناء مبررات عقلية عند الأبناء لموالاة الله وأوليائه ومعاداة أعدائه، فيفهم الأبناء أننا نعادي الكفار لأنهم أعداء الله كما قال جل شأنه:

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ .. الآية [الممتحنة: 1]، وإذا كانت الولاية أصلها المحبة فإن من مقتضى التوحيد والإيمان عدم من محبة من لا يحبه الله تعالى، كما يتم إفهامهم أن موالاة الكافرين قد تدل على الرضى بما هم عليه من الكفر أو تؤول إلى ذلك، وهذا يتنافى مع الرضى بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، فأهل الإيمان لا يرضون ما لا يرضاه الله، ولا يحبون من يتبع ما يسخط الله، ومما يجب إيضاحه لهم أن مقتضى الموالاة، المحبة، والركون، والتأييد، والإقرار، بما هم عليه ظاهراً وباطناً، وهذا لا يجوز من المؤمن لأنه يتعارض مع تحقيق الإيمان والتوحيد.

ومما له أثر معزز ويسد فجوة يتسرب منها إعجاب أبنائنا بالرموز المخالفة للدين والمعتقد، هو ملء فراغ الحاجة للاقتداء والمحاكاة للعظماء، والتعلق بالرموز الفذة، التي هي جزء أصيل في شخصيات أبنائنا وبناتنا، فلا بد من ملء هذه الفجوة بعرض سير العظماء الحقيقيين والجديرين بالعظمة، من سيرة النبي المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، وصحابته، ومن نهج مسيرتهم الجليلة عبر التاريخ، فيربطون بسير هؤلاء الرجال النوابغ، الذين يملكون إيماناً قوياً، وسمواً روحياً فائقاً، ونزاهة عن أغراض النفوس، وعزوفاً عن الشهوات، وتفانياً في المبادئ والعقيدة، إلى الدرجة التي تجعل أبناءنا يعيشون أجواء حياتهم، ويستلهمون منهم الأثر العميق في عواطفهم وتفكيرهم وتصوراتهم، وحين يمتلئ وجدانهم بأولئك يخرج منه ما عداه، وتصح قاعدة "البقاء للأصلح" وليس للأنفع.

مشاركة
نشرة فؤاد العمري البريدية

نشرة فؤاد العمري البريدية

مدونة جعلتها مصبّاً لأوشال أفكاري وقراءاتي المنتظمة في شؤون الاجتماع والثقافة وما يتصل بها

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من نشرة فؤاد العمري البريدية