التدرج الاجتماعي ومنزلة التدين |
23 يونيو 2025 • بواسطة فؤاد العمري • #العدد 4 • عرض في المتصفح |
|
|
قضايا المساواة والتفاوت الاجتماعي من القضايا التي لم يتوقف احتدام الجدل حولها ولم ينتهِ، وبعيداً عن المجال الفكري فإن الحراك الاجتماعي الملحوظ يعبر عن ذلك بشكل متوتر، فإلى أي مدى يمكن أن يحدث اضطراب الثقافة المجتمعية في ذلك إلى اختلال النسق الاجتماعي مما قد يؤدي إلى تدهوره؟! |
![]() |
الرأي المجتمعي كثيراً ما يعبر عن موقف من السهل قراءته ومن الصعب تحليله، فبدافع المساواة وكراهية التمايز يرفض امتياز أي فئة بسمات خاصة، تعطيها أفضلية على الآخرين في الحقوق والواجبات، غير أنه في تطبيق هذا المبدأ يتشوه منظوره وسلوكه بحسب الثقافة المهيمنة، التي تجعله انتقائي في تطبيق هذا المعيار، وعدا الانتقائية تجد جهل "العامة" ظاهر في القيم والموازين التي تعطيها للظواهر المختلفة، فتجد الصورة المقولبة التي تصنعها قوى الثقافة تتحكم بسلّم القيم المجتمعية، فتطبق المساواة بصورتها الطوباوية (المثالية/الخيالية) على القيم التي يجري حصارها، وتغفلها تماماً عن القيم التي تم تصعيدها. |
أصالة التدرج الاجتماعي |
لا بد أن نقرر أن التدرج الاجتماعي ظاهرة أصيلة في كل المجتمعات، لم ينفك عن شكل منها مكوِّن مجتمعي طوال التاريخ، وإنما الخلاف في البحث عن الأنموذج الذي يحقق المساواة العادلة القائمة على تكافؤ الفرص، والمحققة للتوازن المجتمعي. |
فظهر مفهوم "المكانة" الذي يشير إلى اختلاف مواقع الفئات الاجتماعية ومراتبها من الاحترام الاجتماعي أو الوجاهة في عيون الآخرين. |
وفي مدى أوسع ظلت "الطبقة" شكل من أشكال التراصف الاجتماعي، يقوم على العامل الاقتصادي، ومما يؤثر فيها الثروة، أو الموقع داخل سوق العمل، وهي الأكثر مرونة داخل سلم التدرج الاجتماعي. |
كما أخذ التدرج الاجتماعي أشكال جديدة قائمة على الاستهلاكية واختيار أساليب الحياة، وليس شكل الطبقة الاجتماعية، كما برزت مؤشرات أخرى للمكانة الاجتماعية كالمسكن والملبس وأسلوب الحديث والوضع المهني، وكذلك ما يتم إظهاره للتمايز وفق الذوق الثقافي كالسبل التي يسلكها الناس للترويح وقضاء وقت الفراغ.. |
مكانة الدين في التراتب الاجتماعي |
إذا كان لنا أن نبحث عن معيار التفاوت البشري الذي يصح أن يقوم عليه التدرج الاجتماعي، فلا بد أن يكون معيار امتياز الإنسان عن غيره من المخلوقات، وملاك ذلك بأمرين: |
- المدركات الواسعة حول العالم، القائمة على مساعي البشرية الفكرية، والمحددة بنظام منطقي خاص، وهو العلم. |
- التطلعات البشرية الروحية السامية وليدة الإيمان والاعتقاد، وتصل إلى تصورات ونظرات عامة للكون والحياة، وتنبني على أساس اعتقادي وفكري، من خلال الوحي الذي جاء به الأنبياء، وهو الإيمان. |
فأصبح "العلم" و "الإيمان" هما ملاك إنسانية الكائن البشري، وهما مقام الرفعة والتفاضل في الدنيا والآخرة ﴿ يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ﴾ [المجادلة: 11] |
ولما كان المجتمع في جوهره تعبير إنساني عن مجمل العقائد والمفاهيم والأعراف والروابط والمصالح التي تسود رقعته المكانية، فإن الإسلام [عقيدة- وشريعة] هو القاعدة المركزية في حياة المسلمين، وهو الذي يمنح الأفكار والمفاهيم قوامها ويحدد وجهتها، فلا بد أن يكون المرجع والمعيار للتدرج الاجتماعي. |
ولذلك نجد في المنهج الإسلامي دون غيرة الموازنة العادلة والمتكاملة لكلٍ من المساواة والتدرج الاجتماعي، فالطاهر ابن عاشور يقرر أن المساواة الإسلامية الناشئة عن الأخوّة ليس المراد منها التساوي في منتجات العقول أو في العلوم أو في مآثر الأعمال، لظهور التفاوت بين الناس في القابليات والهمم، ولكن يراد منها ما ينشأ عن معنى الأخوة، وهو تساوي المسلمين في الانتساب إلى الجامعة الإسلامية. |
فالمساواة التي سعت إليها الشريعة الإسلامية مساواة مقيدة بأحوال يجري فيها التساوي وليست مطلقة في جميع الأحوال، لأن أصل خلقة البشر جاءت على التفاوت في المواهب والأخلاق. |
فالإسلام لم يعتبر خصائص لطبقات من الناس تكون مقصورة عليهم لا يستطيع نوالها من توفرت عنده أسبابها إذا لم يقدر له أن يكون من أهل طبقتها. |
إن انقسام الأمة إلى طبقات أمر واقعي ناشئ عن أسباب من مواهب عقلية، أو مغامرة في الأخطار، أو انتصار في الدفاع عن الحوزة، فلا نعني بالمساواة بين الطبقات مكابرة ذلك الأمر الواقع، وإنما نعني ألا يكون موجباً لاحتكار خصائص يحرم منها من لم يكن من تلك الطبقة. |
والمحصلة الواضحة أن الإسلام يقرر أن الخصائص والملكات كافة التي تتكون منها إنسانية الإنسان، موجودة لدى كل البشر بالفطرة، ولا موضع في الإسلام للتمييز ضد أي إنسان، بدعوى أن تلك الخصائص والملكات ليست متوفرة لديه. |
فالتفاضل بين البشر في الإسلام على أساس العلم والتقوى والفضيلة والاستقامة والأعمال الصالحة، والتوجه بالباطن والظاهر إلى مرضاة الله: ﴿لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ غَيۡرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلۡمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ دَرَجَةٗۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا﴾ [النساء: 95] |
خطورة إقصاء التدين عن سلم المكانات |
غير أنه لا يخفى على الناظر أن العلمانية صنعت هيمنة على الرأي العام العالمي، بدفع كافة القوى والسياسات الثقافية، وتَرسُّخُ العلمنة في الكيان الاجتماعي ينشأ عنه ولا بد تقليص حضور الدين في المجالات المتنوعة للحياة الاجتماعية. |
وكما قال أحد مفكري الحداثة: أن علماء الاجتماع توقعوا منذ فترة طويلة أن الحداثة ستجرف بسهولة جميع الفضائل الدينية، بحجة أنها معتمدة على خرافات بدائية وقبل حداثية لا غير!! |
كما أشارت دراسة حديثة (2019) إلى وجود تراجع عالمي للتدين بين عامي (2011-2017) إلا أن هذا التراجع كان معتدلاً، ويتناول التدين النمطي وليس التدين بمفهومة الشامل. |
وهذا وغيره أكد فشل التنبؤات الكثيرة في مطلع القرن العشرين بانحسار الدين، حيث أكدت كل المؤشرات بأنه "باقٍ وحيّ"، إلا أنه مع ذلك انحسر، حيث لم يعد دوره سوى أنه يحقق للإنسان "القوت العاطفي، والتضامن الاجتماعي، والمعنى..". |
لقد أقامت العلمانية قيم الإنسان ودوافعه ونشاطاته على أسس طبيعية مادية، فما يحركه هو أخلاقيات طبيعية مادية تستند إلى المنفعة والمصلحة والرغبة في البقاء، وأعطت الوعد في أن تقوم الذات الإنسانية بالاستقلال عن الإله، وتغيير الواقع والهيمنة على الطبيعة، وتحقيقاً لذلك جهدت سياسات العلمنة لنقل ذلك واقعاً في مجتمع الناس، من خلال: |
العمل على انحسار الدين وتراجعه، التركيز على الحياة المادية بدلاً من المستقبل الروحي، الفصل بين المجتمع والدين، اختفاء فكرة المقدس. |
وبعد أن بشر ماكس فيبر بعقلنة المجتمع، أي أن بناء المجتمع يتم الحفاظ عليه عن طريق الشرعية البيروقراطية لا عن طريق الشرعية الدينية؛ فإن الثقافة العامة بذلك علمانية وليست دينية. |
وفي عصر التدفقات عبر الحدود تقوم العولمة بتعميم الأبعاد الاجتماعية والثقافية العالمية، بحيث أن ما يحدث في أجزاء من العالم يمكن أن تكون له نتائج هامة في أجزاء واسعة من العالم، ومن ذلك يتكوّن التجانس الثقافي العالمي، أي أن يصبح كل العالم متشابهاً ثقافياً بطريقة ما. |
كما يعزز ذلك الفاعلون المحليون في مختلف الأقطار؛ بجعل هذه النظرة للعالم تبدو وكأنها "الحس العام السليم" لعموم الناس كما قال غرامشي، فينشطون لصنع التأثير الثقافي في ملعب غير متكافئ من الوسائل والسلطة. |
فلا يخفى أن روح العلمانية تسربت إلى نفوس قطاعات واسعة من المجتمع، استقرت على هيئة رسوبات وخلفيات في الخارطة الإدراكية التي تعاير بها الموضوعات والذوات. |
وعلى مدى زمني؛ استبطنت الرؤية العلمانية ثقافة الجمهور، أو كما أسماها المسيري "العلمنة البنيوية الكامنة"، التي تتسرب لنا، وتغلغل في وجداننا، دون أي شعور منا، من خلال المؤسسات المختلفة، وقطاع اللذة، ومنتجات حضارية يومية، وأفكار شائعة، وتحولات اجتماعية، تبدو كلها بريئة أو لا علاقة لها بالعلمانية أو الإيمانية، ولكنها تخلق جواً خصباً مواتياً لانتشار الرؤية العلمانية الشاملة للكون، وتصوغ سلوك من يتبناها، وتوجهه وجهة علمانية. |
تتعزز هذه الثقافة بأثر العقل الجمعي [السيكولوجية الجمعية] التي تجعل من مجموع ردود الأفعال العقلية بين أفراد مكون مجتمعي ما، تنتهي إلى تكوين نتيجة لا تبلغ رتبة أوساطهم، بل تنحط إلى مستوى أدناهم. |
وحينما يتواتر السياق الثقافي على هذا النحو يصبح المنطق المادي/الدنيوي سيد الموقف، وتستحوذ "النفس" على "العقل"، وحينها لا يصفو تفكير الإنسان والنفس منجذبة إلى دواعي المتعة والذاتية، فلم تعد ثورة الإعلام والاتصال تعطي قيمة كبيرة لأساليب التحريم والمنع، أو التوجيهات المثالية، والآمال الكبرى. |
ينعكس كل ذلك على موقع الدين والمتدينين في سلم التراتب الاجتماعي، ليس على مستوى المنطق التسويغي الذي ينطلق من القناعات والتصورات فحسب، وإنما على مستوى القبول النفسي الذي يرفض بروز هذا النموذج في مرتبة المعياري/المثالي، سواء في صورة الذاتي-الشخصي "المتدين"، أو القيم-السلوك "الدين". |
تراجع الدين والمتدينين في سلم التراتب الاجتماعي إنما هو شاهد بارز على تغلغل النَفَس العلماني في الثقافة العامة، ويدل عليه بوضوح في مبررات الموقف؛ فحينما تنحّي هذه الثقافة المتدينين من سباق الحراك المجتمعي، والتنافس نحو المنزلة والمكانة، فإن ذلك إنما هو ترجمة لمخيلتهم المعلمنة عن الدين التي تعزله عن الحياة، وتحصره في الدائرة الخاصة، وتلزمه خاصة الروح، فهو ليس إلا جملة العبادات التي تصل المؤمن بربه في سره وعزلته..! |
قضايا المساواة والتفاوت الاجتماعي من القضايا التي لم يتوقف احتدام الجدل حولها ولم ينتهِ، وبعيداً عن المجال الفكري فإن الحراك الاجتماعي الملحوظ يعبر عن ذلك بشكل متوتر، فإلى أي مدى يمكن أن يحدث اضطراب الثقافة المجتمعية في ذلك إلى اختلال النسق الاجتماعي مما قد يؤدي إلى تدهوره؟! |
فيبادر باستمرار إلى إقصائه من المعيارية للقيم الاجتماعية، ومن مكانة أهله في الفضاء العام، حتى يظهر سلوك الإقصاء –بلا وعي- من المكانة في المجالس ومساحات إبداء الرأي، وذلك تلافياً لحصول أمرين محذورين: -تهديد الإطار المادي للقيم والسلوك الاجتماعيين، -إعادة موضعة المتدينين في صدارة مواقع الثقة والقبول الاجتماعي. |
ليس الأثر المترتب على ذلك مجرد اختلال في نسق التراتب الاجتماعي ناتج عن تخلف أحد ركائزه، بل يصل من خلال متتاليته اللازمة إلى انحطاط مجتمعي واسع، فإقصاء المتدينين إنما هو عزل للقيم التي يجسدونها، ومن ثم يتجه المجتمع للانصياع لنموذج مادي، خارجي، وغير إنساني، واستبعاد كل الاعتبارات الدينية والأخلاقية، كلما تنحّت عن كونها تفسيرٌ معياريٌّ للحياة، ويبتعد بذلك عن الوجهة التي توحده، وتمنحه أهدافاً مشتركة، أي المرجعية القادرة على ربط الفرد بحقائق تسمو على ذاته وعلى مصالحه الضيقة، إذ لا يمكن لأي مجتمع أن يحدد اتجاهاته وأولوياته من دون تحديد مرجعيته النهائية. |
التعليقات