شـامـل | لكي تحيا حياة طيبة | العدد #42

18 نوفمبر 2025 بواسطة أحـمـد الحـجـيلـي #العدد 42 عرض في المتصفح
الإنسانُ في هذه الحياة، كما لو كان بين فكي نقيض؛ بين نور الخير وظلام الشر، بين حكمة العقل وبراءة القلب، بين حلم الطموح وواقع الانكسار. هو الحلقة التي تربط كل هذه التناقضات، والساحة التي تُخاض فيها معارك القوى المتصارعة، والمسرح الذي تُعرض عليه التجارب والاختبارات. الصراع ليس ظرفًا عابرًا، ولا طارئًا على الإنسان، بل هو قاعدة ثابتة من سنن الحياة، لا تبدلها الأيام، ولا يحيّدها الزمن.الحياة الطيبة، إذن، ليست حلمًا بعيدًا نطارده بعقل متعب، وليست فضيلة نأملها دون جهد، بل هي قرار داخلي، قرار بتطهير القلب من كل ما ترسّب فيه من آلام وتجارب وأخطاء، قرار بتأمل الذات بلا مواربة. فلتجلس على مدرج الحياة كما تجلس على المدرج الروماني، وتراقب نفسك وأنت تصارع الظلال القديمة: الأخطاء، الهفوات، التجاوزات. قد يلسعك الألم، قد يخطف منك الصبر للحظة، لكن هذا الألم هو المرشد، والدرس الذي يكتبك، والجسر الذي يقودك نحو النور القادم، نحو حياة طيبة تتفتح فيها النفس وتزدهر.

المدرج الروماني.. الموت في سبيل الفكاهة

تخيل المدرج الروماني (الكولوسيوم)، تلك الساحة التي كانت مرآة لانحدار الروح البشرية؛ حيث تُهدَر الأرواح، وتُسفك الدماء، لتُفرغ غرور الجماهير، ولتُغذي لحظة الضحك العابرة. الممثل يواجه الموت على أيدي الوحوش المفترسة، والدماء تتدفق، والجمهور يصفق، متلذذًا بما يُسمى المرح.

وهذا المشهد، رغم بُعده الزمني، ليس غريبًا عن عالمنا اليوم. كم من النفوس تغذت على آلام الآخرين؟ كم من الأشخاص يستمتعون بتعذيب المشاعر، والتلاعب بالقلوب، كما تغذت أسلافهم على دماء العبيد؟ هذا الانحدار الأخلاقي يعرقل طريقنا نحو الحياة الطيبة، لكنه أيضًا يكشف لنا الطريق: أن الألم والمعاناة، مهما كانت قاسية، هما اللبنات الأساسية لبناء النفس، وأن التجربة المؤلمة هي الدرس الذي يفتح أبواب النور بعد الظلام.

كل لحظة ألم، كل خيبة، هي جزء من رحلة التكوين، جزء من صياغة النفس، درس يكتب على صفحات القلب لتكون الحياة القادمة أكثر وعيًا، وأكثر سلامًا.

الصلاة الأخيرة لمسيحين خلال أحد حفلات التعذيب في الكولسيوم، روما لوحة لجان ليون جيروم سنة 1834. (ويكيبيديا)

الصلاة الأخيرة لمسيحين خلال أحد حفلات التعذيب في الكولسيوم، روما لوحة لجان ليون جيروم سنة 1834. (ويكيبيديا)

لكي لا تأسوا على ما فات

الآية الكريمة تحثنا على عدم التأسف على الماضي، فالرحلة الإنسانية تمر بلقاءات مع من يؤذوننا، ومع من يغشون، ومع من يغادرون بعد أن أحسنا إليهم. كل هؤلاء كانوا جزءًا من اختبار الحياة، وكل تجربة، مهما كانت مؤلمة، تحمل درسًا ثمينًا.

علينا أن نميز بين العابر والقاطع، بين الصادق والزائف، وأن نحسن اختيار من نعطيهم ثقتنا وقلوبنا. ليس كل من مرّ في طريقنا يستحق مكانًا في حياتنا، وليس كل ألم يجب أن يترك أثرًا دائمًا. إن الحكمة تكمن في أن نستقبل الحياة كما هي، نتعلم من كل تجربة، ونواصل الرحلة بقلب نقي، بعيدًا عن الحمل الثقيل للندم أو الاستياء.

كل لقاء، كل تجربة، كل صراع، هو حجرٌ في صرح حياتنا، جزء من البناء الداخلي، ووسيلة لصقل النفس، وتهيئة الطريق نحو حياة أسمى، حياة طيبة تشرق فيها الروح كما يشرق الفجر بعد ليل طويل.

الخاتمة

الحياة الطيبة ليست هدفًا بعيدًا، بل هي رحلة نسلكها، طريق مليء بالتجارب والدروس والخبرات. الإنسان مركبة تتنقل بين قطاع الطرق والعابري السبيل، يواجه المفاجآت، يكتشف الحقائق، ويختبر الصدق والزيف.

الحياة الطيبة تتطلب وعيًا عميقًا، حسن اختيار، صبرًا، ونضجًا داخليًا. إنها ثمرة كل تجربة عشناها، وكل ألم صبرنا عليه، وكل درس تعلمناه من التجارب السابقة. هي نور ينبعث من قلب الظلام، وسلام يتجذر في أعماق النفس، وفرصة لتحويل كل صراع إلى حكمة، وكل ألم إلى رشد.

ومن يعرف هذا الطريق، يعرف كيف يحوّل الألم إلى درس، والخطأ إلى تجربة، والفقدان إلى وعي، والطريق المليء بالصعاب إلى حياة حقيقية طيبة، حياة تسكنها الطمأنينة، وتضيئها الحكمة، ويزهر فيها القلب على ضوء الفهم والتجربة.

مشاركة
شـامـل

شـامـل

«شـامـل» | نشرة بريدية أسبوعية 📩 تُكتب من صُلب أفكار أحمد الحجيلي، ولأن كل فكرة تستحق أن تُروى كاملة، فـ «شـامـل» نشرة شاملة. «شـامـل» ليست مجرد نشرة، بل رحلة فكرية تأخذ قرّاءها إلى زوايا الأدب، والفكر، والثقافة، والتأملات النقدية، وحتى التساؤلات العابرة التي قد تقود إلى رؤى جديدة. لا تتبع خطًا واحدًا، ولا تلتزم بقالب جامد، بل تنمو مع كل عدد، تمامًا كما تنمو الأفكار في العقول، والأزهار في الحقول. في «شـامـل» لا أعدك بموضوعات تُقرأ وحسب، بل بمحتوى يحفّز عقلك، ويثير فضولك، ويفتح أمامك نوافذ جديدة على العالم. 📌 سوف تجد في «شـامـل» ☘ مقالات متنوعة تتناول كل ما يستحق القراءة والتأمل. ☘ تحليلات نقدية تُعيد النظر في الأفكار السائدة. ☘ مساحة مفتوحة لاكتشاف الجديد والمختلف. ☘ محتوى بلا قيود، كالفكرة التي تلهمنا دائمًا. في «شـامـل» الفكرة ليست النهاية، بل البداية لحوار جديد. — اشترك الآن، ودع الأفكار تأخذك في رحلة بين شِعاب عقل الكاتب، إلى أماكن لم تخطر ببالك!

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من شـامـل