التفسير النظري لصمت الأرشيف - صمت الأرشيف #1

25 يناير 2025 #العدد 2 عرض في المتصفح
المقال الأول في سلسلة صمت الأرشيف، أناقش فيه الأسباب التي تنتج الصمت والفراغات التاريخية في الأرشيف، وسأتحدث عن قصة جمهورية هايتي والصمت الأرشيفي الحاصل في فرنسا عن موضوع استقلالها.

قبل قراءة المقال أنصح بقراءة مقدمة السلسلة لفهم المفردات و الأفكار الرئيسية

مقال تمهيد سلسلة صمت الأرشيف

اكتشاف الصمت في الأرشيف

لا يتم اكتشاف وجود الصمت والفراغات التاريخية في الأرشيف إلا من خلال الباحثين، فحين يبحث الباحث في موضوع معين ويكتشف قلة الأدلة أو قلة إتاحتها هنا يكتشف الصمت الأرشيفي.

ولا يعني وجود الصمت أو الفراغ في الأرشيف أن هناك من يخفيه بشكل متعمد، بل هناك الكثير من الحالات المختلفة التي تؤدي لهذه النتيجة:

1. عدم إنتاج الملفات من الأساس أو عدم حفظ الوثائق في الأرشيف

في كثير من الأحيان لا يتم إنشاء أو حفظ الأوراق أو الأدلة لعدم أهميتها في ذلك الوقت. قد يقرر مؤرشف في الماضي عدم أهمية بعض الأوراق التي تتكلم عن سياسة اليابان العسكرية قبل الحرب العالمية الثانية، على سبيل المثال، لكن في ضوء ما حدث بعد الحرب تحمل هذه المجموعة قيمة أكبر لم يكن المؤرشف قد رآها من قبل، لذلك تكون هذه الأوراق غير موجودة ولا محفوظة في الأرشيف.

ما هو مهم لنا الآن لم يكن دائمًا ما هو مهم في الماضي، وهذه الإختلافات هي ما تكون غياب بعض الأدلة أو الوثائق التي قد نستفيد منها اليوم لفهم الماضي. هذا الصمت في الأرشيف مكتسب في كتابة وحفظ التاريخ وليس متعمدًا بالضرورة.

وقد لا نجد أثرًا للفئات المهمشة في الأرشيف لعدم اهتمام المجتمع آنذاك بهم وبحفظ مستنداتهم أو ما يدل على وجودهم. ومن هذه الفئات فئة العبيد الأفارقة الذين تم شحنهم في سفن إلى أوروبا، حيث مقارنة بعددهم الهائل لا توجد الكثير من المستندات المحفوظة التي تثبت وجودهم.

هذا القمع الأرشيفي دفع بعض الأقليات لإنشاء أرشيفهم الخاص بسبب إهمال أو قمع الحكومات لهم في الأرشيف الوطني.

وسأستغل هذا لأذكر بعض أنواع المؤسسات الأرشيفية:

  • أرشيف خاص: أرشيف تابع لشخص أو مؤسسات خاصة مثل الشركات التجارية.
  • أرشيف مجتمعي: أرشيف ينشئه أفراد المجتمع لحفظ تراثهم وتاريخهم، وغالبًا ما يكون من صنع الأقليات المهملة أو المقمعة التي تأبى أن تجعل تاريخها يمحى. يدار من قبل المجتمع ولا تتدخل فيه الدولة فهو ملكية خاصة للمجتمع الذي أنشأه.
  • أرشيف حكومي: يحفظ سجلات الحكومة منها الملفات القانونية والمالية الدائمة الحفظ.
  • أرشيف وطني: يركز على تاريخ الدولة مثل أوراق الإتحاد أو الإستقلال وصور تمثل تاريخها. وقد يشمل أيضًا إدارة لحفظ الملفات الحكومية بالغة الأهمية أو السرية.

2. تدمير الأرشيف والأدلة في الماضي

"من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل، ومن يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي."

جورج أورويل، رواية 1984

يمكن أن يتم تدمير أو إخفاء الوثائق بشكل متعمد كأداة سياسية أو لأي سبب آخر و أنا مهتمة بشكل خاص بالإستعمال السياسي للأرشيف والوثائق في هذه السلسلة.

ذكر الكتاب أن من أوائل الحالات التي استعمل فيها تدمير الأدلة سياسيًا كان الممارسة المدعوة Damnatio Memoriae في الإمبراطورية الرومانية والتي كانت تطبق على أي إمبراطور يجلب العار أو الإهانة للإمبراطورية أو أي خائن للإمبراطورية. تترجم هذه الكلمة إلى "طمس الذاكرة"، وتقوم فيه الإمبراطورية بمحو كل آثار وجود الإمبراطور أو الخائن.

التقى كراكلا (Caracalla) بأخيه غيتي (Geta) في اجتماع تصالحي نظمته والدتهما. وفي ذلك الاجتماع، أمر كراكلا الحرس الخاص به باغتيال غيتي، حيث طعنوه وتركوه ينزف حتى الموت بين ذراعي والدته. وكان هذا بعد نزاع على السلطة بين الأخوين على الإمبراطورية. بعدها أمر كراكلا بمحو محو جميع الصور والنقوش التي تذكر غيتي في جميع أنحاء الإمبراطورية وصهر جميع العملات التي تحمل اسمه أو صورته.

خضع الأباطرة مثل غيتي لممارسات "تطميس الذاكرة"، حيث تم محو أسمائهم من السجلات، وتشويه تماثيلهم، ومحو إرثهم بالكامل.

صورة عائلية تم محو غيتي منها بأمر من أخيه بعد اغتياله.

صورة عائلية تم محو غيتي منها بأمر من أخيه بعد اغتياله.

القوة السياسية تطبق سيادتها من خلال محو الأفراد وأي دليل على وجودهم. وما زالت ممارسات طمس الذاكرة مستمرة في الحدوث في سياقات المنازعات الدولية والاستعمار، وحين تتبدل السلطة الحاكمة وتحاول محو إرث من سبقها في الحكم.

3. صعوبة الوصول للأرشيف

مع عصر النهضة التكنولوجية أصبح الوصول للملفات الأرشيفية التاريخية وإتاحتها للباحثين بشكل فيزيائي ورقمي أمرًا مهمًا. وصعوبة الوصول لهذه الملفات يعتبر عائقًا وقد يصنع صمتًا وفراغًا في التاريخ. حين يكون الوصول للملفات صعبًا أو حتى مستحيلًا، يقل استخدامها وتُنسى أو لا يتم وضعها في الحسبان لعدم علم الباحثين أو المؤرخين بوجودها أو كيفية الوصول إليها ودراستها.

جانب آخر هو الوصف، حيث أن توصيف وترتيب الوثائق في المجموعات الأرشيفية قد يسهل أو يصعب إيجادها والبحث عنها. فلو كانت وثيقة تتعلق بقبيلة من السكان الأصليين في أمريكا  قد وُصفت بالإسم الخاطئ للقبيلة فإن البحث عن هذه الوثيقة سيكون بلا جدوى لأنها غير موصوفة بشكل صحيح يعكس محتوياتها. ومثال آخر، إذا صُنفت صورة تاريخية على أنها التقطت في ألمانيا، إلا أنها في الحقيقة التقطت في إيطاليا، فإن هذه الصورة لن تظهر حين يتم البحث عن صور إيطاليا التاريخية، وقد تُستخدم كمثال لصورة تاريخية لألمانيا رغم أن ذلك غير صحيح.

الأخطاء -ولو كانت بسيطة- في وصف الوثيقة وتصنيفها تأثر في سهولة البحث و الوصول إليها. دور الأرشيف هو توفير الوثائق للعامة للبحث والاطلاع وفهم الماضي. فكيف يُفهم الماضي لو كان الوصول لهذه الأدلة صعبًا؟

صمت الأرشيف في الاستعمار و السياسية : مثال جمهورية هايتي

هايتي هي إحدى بلدان البحر الكاريبي التي يُسمى سكانها الأصليون بالتاينو. وصل إليها كريستوفر كولومبوس في القرن الخامس عشر وأسس مستعمرة إسبانية فيها إلى أن انتقل استعمارها إلى فرنسا في القرن السابع عشر.

جعل الفرنسيون الجزيرة من أغنى المستعمرات وجلبوا إليها العبيد الأفارقة الذين يشكلون الآن مع السكان الأصليين نسبة كبيرة من سكانها. أحضر الفرنسيون العبيد للقيام بالزراعة التي أدرت الأرباح على فرنسا.

في عام 1804 نجحت هايتي في الإستقلال عن فرنسا بعد ثورة العبيد على المستعمرين الفرنسيين في عام 1791. وتدعي بعض المصادر أن هذه الثورة ضد العبودية كانت من أوائل الثورات الناجحة في التاريخ. لكن حتى بعد استقلالها، عانت الدولة من عدم الإستقرار السياسي والتدخلات الخارجية، وتُعتبر الآن من أفقر دول العالم.

علاقة هذا الموضوع بالأرشيف هي مشكلة قلة المصادر الفرنسية التي تتحدث عن الثورة في هايتي من منظور الثائرين. وقد يعود هذا السبب إلى أن الأوروبيين لم يصدقوا أن العبيد كانوا وراء الثورة فكريًا، بل آمنوا بوجود تدخل خارجي أثار الثورة. لم يهتم الفرنسيون بتوثيق هذه الثورة لتقليلهم من شأن الثائرين وتحكمهم بالمصادر عن الحدث التاريخي الذي كان بداية لتحرير العبيد في العالم الغربي. وهذا الازدراء الأرشيفي لثوار هايتي مستمر حتى الآن، كما يعلق مؤلفا كتاب Archival Silences: Missing, Lost And, Uncreated Archives الذي تدور حول مواضيعه  هذه السلسلة.

سأختم المقال بجملة ذكرها المؤرخ البريطاني إريك هوبسباوم في كتابه عصر الثورات، 1789–1843 عن أرشيف فرنسا في قضية استعمار هاييتي:

"ما نلاحظه هنا هو قوة الأرشيف في أقصى درجاتها، القوة التي تُحدد ما هو وما ليس هو موضوعًا جادًا للبحث وبالتالي للذكر/الوجود"

ريك هوبسباوم، كتاب عصر الثورات

المراجع و الإقتراحات

للأسف لقلة المصادر العربية أغلب مراجع المقال باللغة الإنجليزية سأحاول في المقال القادم تنويع المصادر أكثر بإذن الله

"ماهو الأرشيف" - فيديو يوتيوب
"الأرشيف لديه القدرة على تعزيز الأصوات المهمشة" - فيديو يوتيوب (TEDx Talk)
"مقدمة في البحث الأرشيفي: الصمت الأرشيفي" - شرح معنى صمت الأرشيف و فيه زوايا لم أذكرها
"Damnatio Memoriae: كيف قام الرومان بمحو الناس من التاريخ" - مقال يشرح تطميس الذاكرة الذي مارسه الرومان مع أمثلة تاريخية
"جمهورية هاييتي...أفقر بلدان الأميركيتين التي شهدت أول ثورة للعبيد" - الجزيرة
"أعظم عملية سرقة في التاريخ": كيف أُجبرت هايتي على دفع تعويضات مقابل الحرية" - مقال مثير للإهتمام وجدته و أنا أبحث عن تاريخ هايتي
"هكذا أجبرت فرنسا هايتي على دفع 150 مليون فرنك ذهبي" - مقال آخر وجدته خلال البحث

المقال التالي  : نساء المتعة: التاريخ الموثق والمسؤولية المنكرة

كان من المفترض أن يكون هذا الجزء ضمن هذا المقال، لكنني قررت فصله وتخصيص مقال مستقل له لكي أتمكن من منحه حقه من البحث والتعمق. سأتناول فيه أحداث الحرب العالمية الثانية، وخصوصًا التاريخ الأسود لليابان خلال تلك الفترة. سأركز على استعباد الجيش الياباني للنساء، أو ما يُعرف بنساء المتعة، وإجبارهن على ممارسة الدعارة القسرية لخدمة الجيش الياباني. وفي النهاية، سأناقش الوثائق التي أثبتت هذه الجريمة، وأدينت من خلالها الحكومة اليابانية، التي أنكرت سابقًا دورها في الموضوع.

مشاركة
من الكُتب

من الكُتب

محاولة في كتابة المقالات و المناقشات في بعض الكتب الغنية

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...

المزيد من من الكُتب