زجاجةٌ إلى السماء

19 يناير 2025 بواسطة Mohammed AlShehri #العدد 1 عرض في المتصفح
نَعيٌ مُبكِّر

2022

كنتُ قد ادخرتُ جزءا يسيرا من همة العشرين لمرحلة متأخرة من العمر تدفعني خلالها ظروف تلك المرحلة إما لتوثيق حكايات قديمة -وهي ليست تلك الأحداث البارزة بل تلك التي تقبع في هامش اليوم، الجميلة بتفاصيلها المعتادة التي نعيد سردها كل مرة فتقابلها ابتسامات وضحكات عابرة-، وإما لكتابة رسائلٍ إلى قدامى الأصدقاء للتشبث قدر الامكان بما تبقى من شجن الصداقة.

الآن في هذه المرحلة العمرية تحديدا لم أفكر بتوثيق حكايةٍ ما لكنني لم أتوقع استدعاء شيء من تلك الهمة بهذه السرعة. لا يعني هذا الاستدعاء رغبةً في مواجهة مع حزنٍ مباغت ولا مظاهرةً ضد طبيعة القدر في اختياراته المفاجئة لكن الأمر الآن مختلف. صديقنا علي كان اختيارا غير متوقع. شعرت أنه من الواجب توثيق أزمة هذه المرحلة: مرحلة عبور الصداقات جسرَ الموت.

لم يكن علي صديقا مُقربًا جدا لكن دروبنا تقاطعت لسنوات خلال الفترة الجامعية في الظهران وحتى بعد انتقاله للعمل في الرياض. احتل “أبو عبدالعزيز” مكانة فريدة عند كل من يعرفه. يغرسُ فيكَ رابطا مختلفا، وللأسف لا يعطيك الفرصة لنسيانه فأنت مُجبرٌ تلقائيا على تذكره في كل مناسبة، وعلى زيارته عند كل مرور بمدينة الرياض. لا يمكن أن تمر من أمام سكنه في الجامعة دون أن ترى كومة من الأحذية عند مدخل 106-15. تتجه لا إراديا لإلقاء التحية ليتبين لك أن هذا الحدث أشبه بحجاجٍ يفدون لتلبية فريضة صداقته. كان انجذابًا نحو قِبلةٍ إنسانية بقوةٍ قاهرةٍ لا تفسير لها.

مرضَ علي ثم باركنا له الشفاء ثم رحل.

تزاحمت كل تلك الأدعية المحلقة إلى السماء تؤبنُ الفقيد. الآن أكتبُ إليه رسالة أخيرة تحملها كل تلك الترحٌّمات:

أما وقد أفضيتَ يا صديقي إلى منزلكَ في الضفة العليا، وأمسى مكانكَ هُنا في القلوب شاغرًا قبل الأمكنة، وأخلفتَ جزعًا مهيبًا وندبًا لا ينطفئ، وصنعتَ مفترقا جديدا لدروب اجتمعت كثيرا تحت سقفك وبين جنبيك، وبعد أن علت تلك الروح إلى بارئها في اطمئنانٍ مهيب، فإنَّ النفس تملؤها سكينة وارتياح إلى أنك قرينٌ بأحبابٍ لك تطيب نفسك بهم وتأنس بلقياهم وتستعين بمجلسهم على تبدل الزمان وتعثر الأهل والصديق عن عون دربك الجديد وشَغْلِ منزلك العلوي.

قد ارتقى بك القدر إلى مقامٍ محتوم، وتقطّعت بنا السبل لوصلك ثم لوصل بعضنا بعضًا، فما عدنا نفس الجموع التي كانت تهوي إليك في كل حين، وما صار الطريق بعدك إلا سعيًا حثيثا نحو ما تنصاع به النفس عن ذكراك من شغل الحياة، واصطبارًا على ما جاد به الحظ من قصص مجالس أيامنا السالفة، وعلى ما التقطته الذاكرة والقلوب من جميل الصنيع قبل الصور، وعلى ذكرى ما اصطفاك به الله من أُلف المبسم ونقاء السر والعلن، وعلى ما تركتَ من الذكر الجميل، وما كُنته من منزلة الأخ قبل الصديق.

لم نقدر على أن نبذل إليك اللُّقيا في كل حين، وحل أسىً لم ترهُ فوق رؤوسنا نحن ومن معك وقت ابتلائك، فاستعصى الداء والدواء حتى اختارك الله بغتةً بعد أن استبشرت الجموع بالعود الحميد، واستبدَّ بنا الآن فقدُكَ والدهرُ فلم نجد من كل ذلك مخرجا. يغمُرنا امتنانٌ لا يوازيه شيء لوجودك معنا ولو لساعاتٍ قليلة استرقناها من صخب الدنيا بكل خجلٍ لوصلك ومن معك من الرفاق كي لا يهترئ حبل الأخوة القديم، فكنتَ بالمحبة أسبق إلينا وبسخاء مشاعرك أبلغ منا وسقفًا “عليًّا” لم يصله أحدٌ منا.

الآن وبعد أسبوعٍ وقد انفضت الجموع من حولك نستبيحك عذرا في قلة الحيلة لكننا مطمئنون إلى أنه قد آلت بك الخطوب الغادرة بعد هذا العمر القصير إلى رحمة الباري وجوار الأحبة والأخلاء، أما هنا فليس لنا إلا أن نرتجي من ذكراك أضغاثَ أحلامٍ تأوي بنا إلى اللقيا ولو بعد حين.

***

2023

مر الآن عام.

يا للخيبة! أن نمُدَّ حبلاً لا يصل، فكيف برسالةٍ تائهةٍ لا تستبصر وجهتها. تتحامل ذاتها بين سماءٍ لا نهاية لها وجسدٍ مُسجى في مقبرة النسيم.

لا يمكن أن نكتب النهاية لقصة لا تنتهي.

كيف للمصافحة أن تكون المشهد الأخير؟ ذلك الشعور الثقيل أن تلتقي جسدا مُتعبا فتتعطلُ كل أساليب الحوار حيث لا تُجدي أسئلة الحال ولا أحاديث الاحتساب. جلستَ متحاملا على آلامك كي تلتقينا هزيلا على غير عادتك شارد الذهن أمام متاع الدنيا في ذلك المجلس الخارجي الصغير المهيئ لتلك المرحلة الصعبة. صمتٌ مهيب، ومداعباتٌ يتيمة نتقاذفها لإزاحة شيء من ذلك الألم لكنها باهتة دون جدوى. أثناء تلك الجلسة المرتبكة، تتأملُ على غير عادتكَ سباقًا للخيول على التلفاز وتحضُّنا على الاستمتاع بحضور هذا السباق وفعالياته وكأنها دعوةٌ لنشهدَ نهايةً مُرتقبة. تركنا ذلك المكان بعد دقائقَ طويلة والتفتُّ نحو منزلك بشحوب: أن هناك خَطبًا غير معلوم، وأن تلك العائلة مستعدة، وأن الأوان فات، وأنني متأخرٌ لم أقل كل شيء.

كيف للدلائل أن تشير بتلك السرعة إلى أنك ذلك الرابط العجيب؟ أن تستسلم تلك الصداقات العتيقة على عجال دون الحد الأدنى من شرف المقاومة؟ أن تَبهت الصور الحية بينما تبقى صور الذاكرة كاملة الألوان؟

لكن هل هذا ما انتهت إليه هذه الرسالة حقا؟ هل التحول من الألم إلى العتب فصل أخير في نعي بطل الرواية؟ هل تلاحظُ الآن هذا الافلاس الأدبي في كتابة مشهد يليق بالنهاية؟ أكملتُ الآن عاما في الخوض في مسودةٍ بكلمات ساخنة وارتباكٍ غير مفهوم للوصول إلى صيغةٍ ملائمة للوداع دون جدوى. تأخرتُ في البوح بماهية تلك الصداقة التي جمعتنا.

ستكون هذه الآن محاولةً أخيرة لإنهاء تلك المسودة بلحظة سعيدة اخترت أن أرويها للأصدقاء لإنقاذ النصّ:

تسير كوريلا 2006 في طريق الحزام الذهبي للعودة إلى الجامعة وسط احتفالات اليوم الوطني. يجلس علي بجانبي و”أبو صليم” في المقعد الخلفي الأيمن. لم يعتد علي على النوع “النايم” من الأغاني في مناسبات الفرح. لم يكن وقت “اختلفنا” أو “على البال” التي كنت أعيدها باستمرار. يفتحُ علي النافذة ويطلب مني بصوتٍ عالٍ أي أغنية سريعة مبهجة.. “يالله بسرعة!” حاولت البحث على عجل وسط كومة “السيديات” لكني لم أجد ما أواكب به هذه الاحتفالات سوى “لنا الله يا خالي من الشوق”، اعتذرت وقلت أن هذه أسرع وأبهج وأصخب أغنية قد تجدها عندي، ضحكنا وطلب تشغيل السي دي فورا. تأهبت الأيادي الراقصة المتدلية من النافذة وبدأتْ بالتلويح مرافقةً تلك الايقاعات السريعة المعروفة ومرددةً الوصلة الشهيرة “على نارين”. استجاب عليّ بسعادةٍ غامرة وبضحكاته المجلجلة بذلك الرتم الفريد الذي نعرفه جيدا، محُبًّا كما عهدناه للحياة واللحظات الجميلة.

وداعا يا حبيب.

الرياض           

30-09-2023      

مشاركة
نشرة محمد

نشرة محمد

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...