هل يمكن لعلم النفس أن يفيدنا ؟

14 مارس 2025 بواسطة أنس الصامل #العدد 1 عرض في المتصفح


أثير الكثير من الكلام حول التنمية البشرية، وكيف أنها جزء "يقوم عليه" علم النفس وكيف أن مبدأ "الهالة" جعل كثيراً ممن يمتهن مهنة "توني روبنز" و "براين تريسي" يستطيع بقدراته الإعلامية العالية من جذب عدد لا يستهان به من الناس عن طريق العقل الجمعي ما سرّب لدى فئام من الناس عبر عقلهم الباطن "الاستهانة" بعلم النفس واعتباره علماً يتمّ من خلاله "التشويش" على عقول المتابعين و"التأثير" عليهم من دون نتيجة حقيقية واقعية فعّالة ينتفعون بها. ما يقودني إلى طرح هذا السؤال: هل علم النفس علمٌ مفيد ودقيق ونافع ويوصل إلى نتائج معقولة الدقّة بحيث أنه يعتمد عليها ! أم أنه لا حقيقة له ولا نتيجة وأثره "وقتي" و"لحظي"؟

طفلٌ في السادسة من عمره، يتقنُ الخطّ بشكلٍ لافت، ما يدفع بوالديه إلى البحث بصورة رهيبة عن من يساعدهم كي ينمّو هذه الموهبة لدى صغيرهم. فتاة في المرحلة الثانوية تتقن مهارة التعبير، تقف مكتوفة الأيدي بسبب عدم مقدرتها على تنمية مالديها. وتجد قلقاً واضحاً لديها لعدم مقدرتها على التوجّه إلى "مختصّة" تجيبها على سؤالاتها، ولازال السؤال: هل تعتقد أنك تستطيع استثمار تجربتك مع علم النفس والاستفادة منه ؟

دعني أعترف لك أن هناك ما يسمى بـ"علم النفس الشعبي" ويختصره بعضهم بـ"بوب سيكولوجي" "Psychobabble" متشابه مع "حركة الإمكانات البشرية في الخمسينيات والستينيات يراد بهذا المفهوم مجموعة من المؤلفين والمستشارين والمحاضرين والفنانين الذين يُنْظَرُ لهم بأنهم "علماء نفس" وهم "علماء هبد" ، ولكن دعني أخبرك كذلك بأني مؤمن بأن هناك جزء كبير من علم النفس يعدّ "علماً" وتعدّ نتائجه "يمكن الاعتماد عليها" في فهم الإنسان وأن تكون سبيلاً للسعي إلى إطلاق قدراته ومعالجة مشاكله، فأنا لا أكتفي من علم النفس بالجانب "الأكاديمي" ولا أعتبره هو الجزء الوحيد من الدورة الإنتاجية لعلم النفس .. ستكتشف النتيجة المذهلة من هذه التجربة حين تحمي يومك من الانقطاعات دون المساس بقدرتك على الإنجاز، سواء كنت قلقاً من زميل حصل بينك وبينه موقفٌ عابرٌ في يوم سابق .. أو سواء حصلت لك مشكلة مالية .. وأحيّي فيك المرونة حين أوقفت الأمور الأقلّ أهمية وانشغلت بما هو أهمّ ولم تسمح للتشتت وعدم ترتيب أولوياتك أن يسيطر عليك .. تجربة علم النفس مفيدة إذا استطعت أن تبحث عن مايمكنك استثماره فيه "بوصفه علماً" وفعّلته على أرض واقعك ..

دعني هنا أشاركك بعض الأمور التي تحوّل تجربتك في علم النفس إلى تجربة مفيدة بدلاً من السير في حلقة مفرغة مدارها يملي على بعض الناس ويقول: أن علم النفس إنما هو تنظير ولحظي وليس بنائي وعملي.

فضولك لتجربة مفيدة مع علم النفس ليس صفة سيئة، أو صفة عليك كبتها وإيقافها. الإبداع والموهبة والابتكار هي من الأمور التي يدرسها علم النفس وبرأيي أن علم النفس لن تستمتع به مالم تحوّله واقعاً في حياتك .. من الناحية التاريخية المختصرة فإن علم النفس على الأقل بعد انفصاله عن الفلسفة  قام فونت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومن بعده بالتركيز على أفكارٍ مثل القلق والاكتئاب والوسواس القهري وكان يدور فلكهم في هذا الفلك، ثم في تسعينيات القرن الماضي ظهر علم جديد في الأفق واعتبر فرعاً لعلم النفس إنه علم النفس الإيجابي على يد مارتن سليجمان أستطيع أن أعتبره كسر القاعدة السائدة في الغرب واستطاع أن يسلّط الضوء على مصطلحات جديدة كمفهوم السعادة والرفاهية والرخاء والنجاح مع تحفّظي على حقل علم النفس الإيجابي بمفهومه المادّي إلا أن الإيجابية والفأل مفاهيم إيجابية تستحق التجربة إن كنت تؤمن بوجود مفاهيم بنائية عميقة فلاأقلّ من تجربتها والاستمتاع بها ..

يقول أرسطو " مايجب أن نتعلمه، نتعلمه من خلال العمل"، وعن عبدالواحد بن زيد قال: " كان يقال: من عمل بما علم فتح له علم مالا يعلم" ابن المقرئ في معجمه 315، علم النفس عند بحثك فيه تتشتت وتقع في فخّ الخوارزميات التي تصنعها طريقتك في التفكير التي اعتدتها من كثرة تصفحّك لمواقع التواصل، لذلك برأيي أن علم النفس من المتعة فيه والتي ستكسبك تجربة فريدة هي أن تدخل إليه عن طريق السؤال . حين يكون السؤال حاضراً لديك ستجد أنه يغنيك بإجابات وستجد الإبداع في استخدام الإجابات حين تحوّلها إلى تطبيقٍ عمليّ في حياتك .. لا تقبل المعلومة التي تقرؤها أو تسمعها دون إعمال الحسّ النقدي التحليلي لها .. حاول فهمها وأن تتعمّق فيها " واطرد الفكرة إلى أقصاها واعصرها إلى آخر قطرة، فقد تكون البركة في آخرها" كما يقوله أستاذي البروفيسور عبدالله البريدي.

علم النفس الإيجابي فكرة تستفزّك وتلفتك حين تراها وتحاول تفكيكها وإعادة تركيبها حتى تستلهم منها وتستنبط أفكاراَ وأفكار .. فلو حاولت أن تبحث عن كلمة سعيد في التاريخ الغربي على سبيل المثال لوجدتها في المعجم أضيفت لأول مرّة في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي تقريباً .. ذلك أن سعادة الفرد وصحته كانت مقيّدة بقرارت تعسّفية اتُّخِذت لإله الكاثوليك .. بل إنه حتى القرن السادس العشر لم تدلّ كلمة سعيد على الفرح بل كانت تدلّ على "الحظ"، ولم تصبح كذلك حتى منتصف القرن السابع عشر عندما صوّر توماس هوبز السعادة في كتابه "الليفياثان". فإذا كان مفهوم السعادة في العقل الغربي وفي ضميره العامّ وفي سياقه الحضاري منبعه خارجيّ فبرأيي حتما سيصيبك بالدهشة.

منحت الشريعة الإلهية للإيجابية جانباً أولوياً يبرز ذلك جليّاً عند التعايش مع السياق الشرعي إنْ في القرآن أو فيما قبله في الديانات الإلهية السماوية السابقة .. ستجد على سبيل المثال لا الحصر في قصّة آدم أبي البشر أن الله خاطب آدم بأن يأكل من الجنة "رَغَداً" ولن يأكل الإنسان برغدٍ مالم يكن يعيش الراحة النفسية؛ وفي قصة نوح يبرز لنا مفهوم "السلامة والأمن" ومنبع السلام والأمن للإنسان داخليّ قبل أن ينتقل إلى ماحوله .. ويظهر معنى الإيجابية كتجلٍّ آخر لآخر الديانات السماوية والشرائع الإلهية في شريعة الرسول ﷺ، حيث يلفت في شريعته إلى الإيجابية بدءاً من تغييره الأسماء ذات الدلالات غير الجيّدة كتبديله لاسم "عصيّة" إلى "جميلة" مروراً بتناوله بعض مظاهر الحياة المقيتة كإبطاله التشاؤم والتطيّر وتعريجاً بمداواته لبعض الأعراض النفسية التي تمرّ على صحابته كما في قصة حديث الدعاء المشهور "اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن .. " وكيف أنّه عالج العارض في آنه .. إذ إن الشريعة أرادت من الإنسان أن يعيش بإيجابيّة وتفاؤل وتوكّل وتعلّق بالملكوت الأعلى لا بالدنيا الدنيّة ..

مشاركة
نشرة أنس الصامل البريدية

نشرة أنس الصامل البريدية

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...