ثمّة موسيقى في مكانٍ بعيد

#العدد 1 عرض في المتصفح

في 1898 طلب موسى كون- شريك في مصنع أقمشة في كارولينا الشمالية بأمريكا- من أخته الصغرى شراء ديكورات لغرفة الجلوس- أو هكذا الحكاية سرت- وأعطاها 300 دولار لتصرف منها. الثلاثمائة دولار كانت وقتها بحسبة 3000 دولار اليوم.

الأخت الصغرى، واسمها ايتا، ابتاعت خمس لوحات لرسام انطباعي أمريكي وزّعتها على جدران المنزل. ويبدو أن الأمر قد راق لها، ولأختها الأكبر، كلارابيل.

الأختان كون. هولندا 1907

الأختان كون. هولندا 1907

من لوحات ثيودور روبنسون- أولى اختيارات الأختين كون

من لوحات ثيودور روبنسون- أولى اختيارات الأختين كون

في 1901، بعمر الـ 37 و الـ 31 عاماً على التوالي، بدأت الأختان زيارة سنوية طويلة لأوروبا. متاحف وأوبرا وتسوّق. بعدها بسنتين، التقتا بصديقة من الولايات المتحدة في باريس. جرترود شتاين. وعبرها تعارفا على رسام أسباني مكافح يقيم في باريس، ويجرّب الخروج من عباءة الرسم الانطباعي السائدة وقتها ليرسم بأسلوبه الخاص.

الأسباني كان بابلو بيكاسو. وأسلوبه الخاص، أو جزء منه، عُرف في السنوات التالية بالمدرسة التكعيبية. يحلل المشهد أمامه، يفكك الأشياء ويعيد تشكيلها ورسمها في صيغ مٌجرّدة. وبدلاً من أن نرى الصورة من زاوية واحدة، نراها من زوايا متعددة.

بابلو بيكاسو. امرأة تحمل مروحة

بابلو بيكاسو. امرأة تحمل مروحة

من جيرترود شتاين بدأت الأختان، وخصوصاً الكبرى كلارابيل مغامرة امتدّت طيلة عمرها، واستمرّت مع أختها الأصغر حتى وفاتها في 1949. شراء الأعمال الفنيّة. تلك التي تروق لذوقهما المحافظ في بداية رحلتهما، وتلك التي خرجت تماماً عن المألوف، وعن تقدير النقّاد لها في ذلك الوقت. كلّما اقتربت كلارابيل من رحلة الفنان- مهما كان أسلوبه ثورياً- مع العمل الفنّي، رغبت في اقتنائه على الغالب. أغلى مقتنيات الأختين كانت لوحة ماتيس " العارية الزرقاء"، لكنهما في نفس الوقت، وخصوصاً ايتا، ابتاعتا عدداً كبيراً من السكتشات المهمّة بدولار أو دولارين وقتها من استديوهات الرسامين.

العارية الزرقاء- ماتيس 1907

العارية الزرقاء- ماتيس 1907

انتهت مجموعة الأختين الفنيّة بعد وفاة ايتا إلى متحف بالتيمور، وقدّرت قيمتها- في بداية الألفية- بأكثر من بليون دولار.

-

وصلت لطريق الأختين كون بالصدفة. كنت أبحث عن إجابة لسؤال عمل: كيف تستطيع أن تتعامل مع جمهور انتقل من شراء ما يعجبه ليصبح جمهوراً لا يقتنع بما يعجبه قدر اقتناعه بلوجو ما يعجبه؟

خطوة وراء خطوة أوصلتني إلى المدرسة التكعيبية، ومن المدرسة التكعيبية وجدت السيدتين. وجدت الإجابة أيضاً، لكن اهتمامي بالقصّة تجاوز الاهتمام المهني ليتعلّق بالشخصي.

إلى متى نظل في صناديقنا؟ هذا يعجبنا. لا هذا لا يعجبنا.  

إن تشبّثنا بها بما فيه الكفاية، نصبح نسخة مبتسرة من الأختين كون. دائرة لا تنتهي من شراء لوحات الانطباعيين التقليدية. يوم متكرر من 300 دولار لخمسة لوحات نزيّن بها غرف الجلوس. نغفل عن ماتيس وبيكاسو وسيزان وخوان مايرو والباقين.

كيف نخرج من صناديقنا لصناديق أفسح وأوسع؟

عبر عيون الأصدقاء. والحكماء. والأدباء. والأجيال الأصغر، والأكبر، على تويتر وانستجرام.

المفسّرون الذين يعطون الأشياء الجديدة، التي لا تعجبنا، سياقاً يعجبنا. جرترود شتاين كانت هي المفسّرة- في بداية رحلة الأختين كون- لهذه المساحات الجديدة. لكن التفسير لوحده لا يكفي، لابد أن يرافقه على الجانب الآخر قبول. لا مقاومة، ولا " ما يعجبني".

ثمّة موسيقى في مكانٍ بعيد. أتريد أن تسمع؟ 

مشاركة
رسائل من مايا

رسائل من مايا

التعليقات

جارٍ جلب التعليقات ...