هل تعرف القلق النافع؟ العدد #١١ |
بواسطة عبدالله الشهري • #العدد 11 • عرض في المتصفح |
|
القلق النافع! |
لا يمكن لأحدنا أن يهرب من محاصرة القلق لمشاعره وأفكاره… |
الإنسان بطبعه وجِبلَّته يهتمُّ لأمر حياته. |
يفكِّر دومًا في مأكله ومشربه، يتخيَّر بعد تأمُّلٍ ملبسَه… تشغله دراسته، وقبل أن ينام يرسل الفكر في غده. |
هكذا الإنسان، لا ينفكُّ عن التفكير والهمِّ والقلق، والناس في ذلك بين مُقِلٍّ ومستكثر. |
بَيْدَ أنَّ من أنواع الهموم والقلق قلقًا يتجاوز القلقَ الجِبلِّي العادي إلى أن يكون قلقًا مطلوبًا، وخصلة حميدة يُمدح الشخص بها ويُثنى عليه! |
فأيَّ قلق نعني، وعن أيِّ همٍّ نفتش؟ |
هل تأمَّلت الأعمالَ الجليلةَ التي ورثَّها لنا سلفنا والمتقدمون من علماء هذه الأمة وخِيارها! |
أرأيت تلك المدوَّنة الضخمة "درء تعارض العقل والنقل"، وأختها المذهلة الأخرى "بيان تلبيس الجهمية"، التي قد يعْسُر فهم بعض نصوصها على أهل العلم؟! |
أتظنُّ أنَّ أبا العباس قد كتبها دون أن تَشغله وتؤرِّقه في ليله ونهاره؟! |
لقد عاش ابن تيمية همَّ كتابتها، وقلق تفنيد شبهات خصومه الأشداء. |
لم يكن الرازي شخصًا عاديًّا… كان ذكيًّا من أذكياء الدنيا، فانبرى له ابن تيمية، فكتب الدَّرْءَ ليقضي على قانونه، ويُعيد مسار الأدلَّة بنوعيْها النقلي والعقلي؛ يعيدها إلى موضع التوازن الذي لا يضلُّ ولا يطغى… وتوجَّه إلى شُبهات الجهمية فهَلْهَلَها، وبيَّن زيِفها وكشف تلبيس أصحابها. |
ثم انظر إلى مدونات العلماء عبر التاريخ، تأمَّل في "زاد" ابن القيم، الذي ألَّفه وهو يعيش مراحل الارتحال والسفر، فأخرج لنا هذا السِّفْرَ الذي لا نظيرَ له في بابه! |
وحافظ الدنيا، وريحانة مصر: ابن حجر العسقلاني، يُمضي خمسةً وعشرين عامًا وهو يكتب "الفتح"، شارحًا أعظم كتاب بعد كتاب الله -سبحانه- ولما أنهاه وزال همُّ تلك السنوات وارتاحت نفسُه وسكن القلق، أقام وليمةً عظيمة تسامعَ بها أهلُ مدينته. قال تلميذه السخاوي في وصف ذلك الحدث: "وكان يومًا مشهودًا لم يعهدْ أهلُ العصر مثلَه بمحضرٍ من العلماء، والقضاة، والرؤساء، والفضلاء… وقال الشعراء في ذلك فأكثروا، وفرَّق عليهم الذهب. وكان المستغرقُ في الوليمة خمسَمائة دينار، ووقعت في ذلك اليوم مطارحة أدبية"[1]. |
أمثلة قليلة من عجائب الكتب والمدونات، ما كان لنا أن نراها لولا أن أصحابها عاشوا القلق وتسامروا معه شهورًا وأعوامًا، وكان محاصِرًا لأفكارهم وأمنياتهم، حتى أخرجوا لنا تلك الكنوز. |
ليس الأمر بالطبع محصورًا في العلوم الشرعية، بل هو في كلِّ علم نافع وعمل صالح. |
بل في الجهود التي بذلها غير المسلمين كالمستشرقين، ما يبيِّن بجلاءٍ مقدارَ الوقت الذي أنفقوه والجهد الذي بذلوه ليؤلِّفوا الموسوعات في العلوم الشرعية والعربية وغيرها. |
وهاكَ بعضَ الأمثلة التي ذكرها د. إبراهيم الحقيل في مقال قديم له، وهذا مختصر له[2]: |
1 – ذكر أنستاس الكرملي أنَّ المستشرق الفرنسي المعروف لويس ماسينيون كان في سنة 1920م قد أتمَّ -لكي يؤلِّف كتابه عن الحلَّاج- مراجعةَ ألفٍ وسبعمائة وستة وثلاثين مصنفًا في أكثر من ثماني لغات يجيدُها تتَّصل كلها بالحلاج وسيرته وآرائه. |
2 – نشر المستشرق الألماني فرديناند فستنفلد (ت: 1899م): طبقات الحفَّاظ، ووفيات الأعيان، وتهذيب الأسماء واللغات، ومعجم البلدان، ومعجم ما استعجم، واشتقاق ابن دريد، وسيرة ابن هشام، في مائتي مصنف، فمات عن ثلاث وتسعين سنةً بعد أن كُفَّ بصرُه في آخرها؛ لأنه اشتغل أربع عشرة ساعة في اليوم والليلة لأزيد من ستين سنة في تاريخ بلاد العرب وجغرافيتها وآدابها وعلومها. |
3 – أمضى البحَّاثة الأمريكي ديورانت ستين سنةً في تأليف موسوعته: "قصة الحضارة"؛ بدأ عام 1915م بالتحضير لكتابه مدَّة عشر سنوات، كان يزور خلالها المناطق الحضارية التي سيتناولها في أجزاء كتابه، فزار اليونان وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا ومصر والشام… وبلادًا كثيرة سواها. وصدر الجزء الأول منه عام 1925م وصدر الجزء الأخير عام 1975م. توفي عن قريب من مائة سنة بعد إنهاء كتابه بسنوات قلائل، قضاها في تأليف عدَّة كتب غير هذا الكتاب. |
4 – أنفق إميل لودفيج في تأليف كتابه المذهل (النيل) عشرَ سنوات، وهذا الكتاب يعدُّ من مفاخر التراث الإنساني… ترجم فيه لودفيج للنيل كما يترجم للعظماء من البشر، زار مساقطه، وتتبَّع مجاريه، وذكر الحضارات التي حَيَتْ بحياته، في سياق مُعجِب آسِر، يأسى له مَن يقرأ اليوم تحذيرَ أهل الاختصاص من مغبَّة تلوث النيل بالجهل. |
والأمثلة ليست قليلة بل كثيرة… وأنا أعيد السؤال: هل تحسب أنَّ هؤلاء المستشرقين لم يكن الهمُّ والقلق مصاحبًا لهم، ومتلبِّسًا بهم؟! |
وفي وقتنا المعاصر، وفي العلوم الأخرى الطبيعية والتجريبية يَسري الهمُّ والقلق مع كلِّ العلماء المنتجين؛ فأبطال التكنولوجيا، وروَّاد مراكز الأبحاث، ومكتشفو الأمصال الوقائية، وغيرهم… لا شكَّ أنَّ القلق كان يُسهرهم ليلًا ويرهقهم نهارًا، وما خفَّف وطأته عليهم إلا حين أروه نتائج أعمالهم. |
أخي القارئ المهموم بالإنتاج والبذل، تأكَّد أنَّ الهمَّ الحميدَ والقلق النافع هو الذي يدفع صاحبه دفعًا لاكتساب المعالي. |
هو الذي لا يريح مَن تملَّكه حتى ينجز، بل حتى يُحْسن ذلك المنتج. |
هو الذي يؤزُّ الشابَّ الصغير فيمشي من بيته إلى حلقة المسجد يومًا بعد يوم، حتى يختم كتاب الله على شيخه! عندها يسكن القلق وتطمئن النفس. |
فاصلة: |
إذا رأيت الشابَّ النابه أمضى سنواتٍ من شبابه وهو يعيش القلق ويسري في روحه، يلازمه في مدارج تعلُّمه، ويسايره في مسيره إلى تحقيق غاياته… فاعلم حينها أنَّك على وَشْكِ حصد ثمرة علمية باهرة، رعاها العِلْمُ ودَفَعَها القلق. |
التعليقات